مال الله خضم الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتكث فتله، وأجهز عليه عمله، وكبت به بطنته.
فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلي، ينثالون علي من كل جانب، حتى لقد وطئ الحسنان وشق عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم.
فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة، ومرقت أخرى، وقسط آخرون، كأنهم لم يسمعوا الله تعالى يقول: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعقبة للمتقين). (1) بلى والله، لقد سمعوها ودعوها، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها.
أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله تعالى على العلماء ألا يقاروا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز.
قالوا: وقام إليه رجل من أهل السواد عند بلوغه إلى هذا الموضع من خطبته، فناوله كتابا، فأقبل ينظر فيه، فلما فرغ من قراءته، قال ابن عباس - رحمة الله عليه -: يا أمير المؤمنين لو اطردت مقالتك من حيث أفضيت!
فقال: هيهات! يا بن عباس، تلك شقشقة هدرت ثم قرت.
قال ابن عباس: فوالله ما أسفت على كلام قط كأسفي على هذا الكلام ألا يكون أمير المؤمنين بلغ منه حيث أراد. (2)