وأجاب الأحناف عن ذلك بعدم المعارضة بين حديث علي وحديث ابن عباس، وفعل أبي أمامة، وقالوا: إن قول علي لا يكون إلا عن سماع، ولأن قوله تعالى: * (فاسعوا إلى ذكر الله) * ليس على إطلاقه بإنفاق الأمة، إذ لا يجوز إقامتها في البراري إجماعا، ولا في كل قرية عند ابن عباس، بل يشترط ألا يظعن أهلها عنها صيفا ولا شتاء، فكان خصوص المكان مرادا فيها إجماعا، فقدر القرية من أخذ بحديث ابن عباس بأنها القرية الخاصة. وقدر الأحناف المصر وقالوا: هو أولى لنص حديث علي (إلا في مصر جامع)، وقالوا إن إقامتها في قرية جواثي غاية ما فيه تسمية جواثا قرية، وهذه التسمية هي عرف الصدر الأول، وهو لغة القرآن في قوله تعالى: * (وقالوا لولا نزل هاذا القرءان على رجل من القريتين عظيم) * أي مكة والطائف، ومكة بلا شك مصر، وفي الصحاح أن جواثا حصن بالبحرين، فهي مصر إذ الحصن لا يخلو عن حاكم عليهم وعالم، أما صلاة أبي أمامة فلم تكن عن علم ولا تقرير من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا كانت شرعت الجمعة آنذاك، فلا حجة فيه. والذي يقتضيه النظر بين هذه الأقوال والله تعالى أعلم: أن رأي الجمهور أرجح. ويتمشى مع قواعد مذهب أبي حنيفة في الجملة، لأن الأحناف يتفقون مع الجمهور على تسمية المصر قرية كتسمية الطائف ومكة قرى.
وجاء في القرآن: مكة أم القرى، فالقرية أعم من المصر، ومذهب أبي حنيفة تقديم العام على الخاص في كثير من الأمور، كما في حديث (فيما سقت السماء العشر)، فقدمه على حديث (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة)، ومن هذا كله يتضح أن الاستيطان مجمع عليه، فلا تصح في غير وطن، ولا تلزم غير مستوطن. ومن قال بغير ذلك فقد خالف الأئمة، وشذ عن الأمة، وليس له سلف فيما ذهب إليه، والذي قاله الجمهور يشهد له سياق القرآن الكريم بالإيماء والإشارة، لأننا لو أخذنا بعين الاعتبار الأمر بالسعي إلى ذكر الله وترك البيع حتى لا يشغل عنها، ثم الانتشار في الأرض بعد قضائها، لتحصل عندنا من مجموع ذلك كله أن هناك جماعة نوديت وكلفت باستجابة النداء والسعي، ثم الكف عن البيع الذي يشغل عن السعي، ومثل هذا البيع الذي يكلفون بالكف عنه والذي يخشى منه شغل الناس عن السعي إلى الجمعة لا يكون عقدا بين اثنين فقط، ولا يكون عملا فرديا بل يشعر بأنه عمل بين أفراد عديدين ومبايعات متعددة مما يشكل حالة السوق، والسوق لا يكون في البوادي بل في القرى وللمستوطنين.