أضواء البيان - الشنقيطي - ج ٥ - الصفحة ٤٦٣
في غير النفس، فقد احتجوا بأن الحديث الصحيح الذي هو حديث أبي شريح المتفق عليه، فيه: (فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما) الحديث، قالوا: تصريحه صلى الله عليه وسلم بالنهي عن سفك الدم دون غيره دليل على أنه ليس كغيره، ولا يقاس غيره عليه؛ لأن النفس أعظم حرمة مما لا يستوجب القتل من حد أو قصاص في غير النفس، فيبقى غير القتل داخلا في عموم النصوص المقتضية له في كل مكان وزمان، ويخرج خصوص القتل من تلك العمومات بهذا الحديث الصحيح، ويؤيده أن قوله: (دما) نكرة في سياق النفي، وهي من صيغ العموم، فيشمل العموم المذكور إراقة الدم في قصاص أو حد، أو غير ذلك.
واستدلوا أيضا بقول ابن عمر رضي الله عنهما: لو وجدت قاتل عمر في الحرم ما هجته. قال المجد في المنتقى: حكاه أحمد في رواية الأثرم.
وأما الذين قالوا: بأن الحرم لا يستوفى فيه شئ من الحدود، ولا من القصاص قتلا كان أو غيره، فقد استدلوا بقوله تعالى: * (ومن دخله كان ءامنا) *، قالوا: وجملة * (ومن دخله كان ءامنا) *، خبر أريد به الإنشاء فهو أمر عام، يستوجب أمن من دخل الحرم، وعدم التعرض له بسوء، وبعموم النصوص الدالة على تحريم الحرم.
واستدلوا أيضا بآثار عن بعض الصحابة، كما روي عن ابن عباس، أنه قال في الذي يصيب حدا ثم يلجأ إلى الحرم: يقام عليه الحد، إذا خرج من الحرم، قال المجد في (المنتقى): حكاه أحمد في رواية الأثرم، وهذا ملخص أقوال أهل العلم وأدلتهم في هذه المسألة.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر والله تعالى أعلم أن أجرى هذه الأقوال على القياس قول من قال: يستوفى من اللاجىء إلى الحرم كل حق وجب عليه شرعا، قتلا كان أو غيره؛ لأن إقامة الحدود واستيفاء القصاص مما أوجبه الله، وفعل ذلك طاعة، وتقرب إليه وليس في طاعة الله، وامتثال أمره انتهاك لحرمة حرمه، وأجراها على الأصول، وهو أولاها، هو الجمع بين الأدلة، وذلك بقول من قال: يضيق على الجاني اللاجىء إلى الحرم، فلا يباع له، ولا يشترى منه، ولا يجالس، ولا يكلم حتى يضطر إلى الخروج، فيستوفى منه حق الله إذا خرج من الحرم؛ لأن هذا القول جامع بين النصوص، فقد جمع بين استيفاء الحق، وكون ذلك ليس في الحرم، وفي هذا خروج من الخلاف،
(٤٦٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 458 459 460 461 462 463 464 465 466 467 468 ... » »»