أضواء البيان - الشنقيطي - ج ٤ - الصفحة ٥٩
المرض. بدليل قوله (أما الله فقد شفاني) وفي بعض الروايات الثابتة في صحيح البخاري وغيره بلفظ: فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال مطبوب. أي مسحور. وهو تصريح بأن السحر سبب له وجعا. ونفي بعض الناس لهذه القصة مستدلا بأنها لا تجوز في حقه صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى عن الكفار منكرا عليهم. * (إن تتبعون إلا رجلا مسحورا) * ساقط. لأن الروايات الصحيحة الثابتة لا يمكن ردها بمثل هذه الدعاوى. وسترى في آخر بحث هذه المسألة إن شاء الله تعالى إيضاح وجه ذلك. وطرف لا خلاف في أن تأثير السحر لا يمكن أن يبلغه. كإحياء الموتى، وفلق البحر ونحو ذلك.
قال القرطبي في تفسيره: أجمع المسلمون على أنه ليس في السحر ما يفعل الله عنده إنزال الجراد والقمل والضفادع، وفلق البحر، وقلب العصا، وإحياء الموتى، وإنطاق العجماء، وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم الصلاة والسلام. فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون لا يفعله الله عند إرادة الساحر. قال القاضي أبو بكر بن الطيب: وإنما منعنا ذلك بالإجماع ولولاه لأجزناه انتهى كلام القرطبي.
وأما الواسطة فهي محل خلاف بين العلماء، وهي هل يجوز أن ينقلب بالسحر الإنسان حمارا مثلا، والحمار إنسانا؟ وهل يصح أن يطير الساحر في الهواء، وأن يستدق حتى يدخل من كوة ضيقة. وينتصب على رأس قصبة، ويجري على خيط مستدق، ويمشي على الماء، ويركب الكلب ونحو ذلك. فبعض الناس يجيز هذا. وجزم بجوازه الفخر الرازي في تفسيره، وكذلك صاحب رشد الغافل وغيرهما. وبعضهم يمنع مثل هذا.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أما بالنسبة إلى أن الله قادر على أن يفعل جميع ذلك، وأنه يسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب وإن لم تكن هناك مناسبة عقلية بين السبب والمسبب كما قدمناه مستوفى في سورة (مريم) فلا مانع من ذلك، والله جل وعلا يقول * (وما هم بضآرين به من أحد إلا بإذن) *. وأما بالنسبة إلى ثبوت وقوع مثل ذلك بالفعل فلم يقم عليه دليل مقنع. لأن غالب ما يستدل عليه به قائله حكايات لم تثبت عن عدول، ويجوز أن يكون ما وقع منها من جنس الشعوذة والأخذ بالعيون، لا قلب الحقيقة مثلا إلى حقيقة أخرى. وهذا هو الأظهر عندي، والله تعالى أعلم.
(٥٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 ... » »»