أضواء البيان - الشنقيطي - ج ٤ - الصفحة ٣٨٧
وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي، قال: قرأت على مالك عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع. الحديث، وفيه: فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت، وبالصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم: وأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة، فإنما طافوا طوافا واحدا. انتهى منه.
فهذا نص صريح متفق عليه، يدل على الفرق بين القارن والمتمتع، وأن القارن يفعل كفعل المفرد والمتمتع يطوف لعمرته، ويطوف لحجه فلا وجه للنزاع في هذه المسألة بعد هذا الحديث، وحديث ابن عباس المذكور قبله عند البخاري. وقول من قال: إن المراد بالطواف الواحد في حديث عائشة هذا السعي، له وجه من النظر واختاره ابن القيم، وهو وجيه عندي.
فهذه النصوص تدل على صحة هذا القول المفرق بين القارن والمتمتع، وهو قول جمهور أهل العلم، وهو الصواب إن شاء الله تعالى.
أما من قال: إن المتمتع كالقارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد، وهو رواية عن الإمام أحمد، فقد استدل بما رواه مسلم في صحيحه، قال: وحدثني محمد بن حاتم، حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، ح. وحدثنا عبد ابن حميد، أخبرنا محمد بن بكر، أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه بين الصفا والمروة، إلا طوافا واحدا زاد في حديث محمد بن بكر طوافه الأول. انتهى منه.
قال: من تمسك بهذا الحديث، هذا نص صحيح، صرح فيه جابر بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطف هو ولا أصحابه إلا طوافا واحدا، ومعلوم أن أصحابه فيهم القارن، وهو من كان معه الهدي، وفيهم المتمتع، وهو من لم يكن معه هدي، وأذن ففي هذا الحديث الصحيح الدال على استواء القارن والمتمتع في لزوم طواف واحد وسعي واحد.
وأجاب المخالفون عن هذا بأجوبة:
الأول: هو أن الجمع واجب إن أمكن، قالوا: وهو هنا ممكن بحمل حديث جابر هذا على أن المراد بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين لم يطوفوا إلا طوافا واحدا للعمرة والحج، خصوص القارنين منهم، كالنبي صلى الله عليه وسلم، لأنه كان قارنا بلا شك، وإن حمل حديث جابر على هذا كان موافقا لحديث عائشة، وحديث ابن عباس المتقدمين، وهذا واضح كما ترى. قال في مراقي السعود: لأنه كان قارنا بلا شك، وإن حمل حديث جابر على هذا كان موافقا لحديث عائشة، وحديث ابن عباس المتقدمين، وهذا واضح كما ترى. قال في مراقي السعود:
* والجمع واجب متى ما أمكنا * إلا فللأخير نسخ بينا * وإنما كان قول العلماء كافة: أن الجمع إن أمكن وجب المصير إليه لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، كما هو معروف في الأصول.
الجواب الثاني: أنا لو سلمنا أن الجمع غير ممكن هنا في حديث جابر المذكور مع حديث عائشة، وحديث ابن عباس كما جاء في بعض الروايات، عن جابر عند مسلم بلفظ، لا يمكن فيه الجمع المذكور، وذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا أبو الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج معنا النساء والولدان، فلما قدمنا مكة طفنا بالبيت وبالصفا والمروة، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (من لم يكن معه هدي فليحلل، قال: قلنا: أي الحل؟ قال: الحل كله. قال: فأتينا النساء ولبسنا الثياب ومسنا الطيب، فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج وكفانا الطواف الأول بين الصفا والمروة، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر، كل سبعة منا في بدنة) انتهى.
ولفظ جابر في حديث مسلم هذا في هذه الرواية، لا يمكن حمله على القارنين بحال، لأنه صرح بأنهم حلوا الحل كله، وأتوا النساء ولبسوا الثياب ومسوا الطيب، وأنهم أهلوا يوم التروية بحج، ومع هذا كله صرح بأنهم كفاهم طوافهم الأول بين الصفا والمروة، فإن حديث جابر ينفي طواف المتمتع بعد رجوعه من منى، وحديث عائشة وحديث ابن عباس يثبتانه.
وقد تقرر في الأصول وعلوم الحديث أن المثبت مقدم على النافي، فيجب تقديم حديث ابن عباس وعائشة، لأنهما مثبتان على حديث جابر النافي.
الجواب الثالث: أن عدم طواف المتمتع بعد رجوعه من منى الثابت في الصحيح رواه جابر وحده، وطوافه بعد رجوعه من منى رواه في الصحيح ابن عباس، وعائشة، وما رواه اثنان أرجح مما رواه واحد.
قال في مراقي السعود، في مبحث الترجيح باعتبار حال المروي: قال في مراقي السعود، في مبحث الترجيح باعتبار حال المروي:
* وكثرة الدليل والرواية * مرجح لدى ذوي الدراية * وأما من قالوا: إن القارن والمتمتع يلزم كل واحد منهما طوافان وسعيان، طواف وسعي للعمرة، وطواف وسعي للحج كأبي حنيفة ومن وافقه، فقد استدلوا لذلك بأحاديث، ونحن نذكرها إن شاء الله هنا، ونبين وجه رد المخالفين لها من وجهين.
فمن الأدلة التي استدلوا بها على أن القارن يسعى سعيين ويطوف طوافين لحجه وعمرته، ما أخرجه النسائي في سننه الكبرى، ومسند علي عن حماد بن عبد الرحمان الأنصاري، عن إبراهيم بن محمد ابن الحنفية قال: طفت مع أبي، وقد جمع بين الحج والعمرة فطاف لهما طوافين، وسعى لهما سعيين، وحدثني أن عليا فعل ذلك، وحدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك. انتهى بواسطة نقل صاحب نصب الراية، ثم قال بعد أن ساق الحديث كما ذكرنا.
قال صاحب التنقيح: وحماد هذا ضعفه الأزدي، وذكره ابن حبان في الثقات. قال بعض الحفاظ: هو مجهول، والحديث من أجله لا يصح. انتهى.
ومن أدلتهم على الطوافين والسعيين للمتمتع والقارن معا: ما أخرجه الدارقطني عن الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عمر: أنه جمع بين حجته وعمرته معا، وقال سبيلهما واحد، قال: فطاف لهما طوافين، وسعى لهما سعيين. وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت. انتهى وأخرجه عن الحسن بن عمارة، عن الحكم عن ابن أبي ليلى، عن علي قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قرن وطاف طوافين، وسعى سعيين. انتهى منه بواسطة نقل صاحب نصب الراية. ثم قال بعد أن ساقهما كما ذكرنا.
قال الدارقطني: لم يروهما غير الحسن بن عمارة، وهو متروك ثم هو قد روى عن ابن عباس ضد هذا ثم أخرجه عن الحسن بن عمارة، عن سلمة بن كهيل، عن طاوس قال: سمعت ابن عباس يقول: لا والله ما طاف لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا طوافا واحدا، فهاتوا من هذا الذي يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف لهما طوافين. انتهى. وبالسند الثاني رواه العقيلي في كتاب الضعفاء فقال: حدثنا عبد الله بن محمد بن صالح السمرقندي، ثنا يحيى بن حكيم المقوم قال: قلت لأبي داود الطيالسي: إن محمد بن الحسن صاحب الرأي، حدثنا عن الحسن بن عمارة، عن الحكم عن ابن أبي ليلى، عن علي قال: فذكره. فقال: أبو داود من هذا كان شعبة يشق بطنه من الحسن بن عمارة، وأطال العقيلي في تضعيف الحسن بن عمارة، وأخرجه الدارقطني أيضا عن حفص بن أبي داود عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن عبد الرحمان بن أبي ليلى، عن علي بنحوه، قال: وحفص هذا ضعيف، وابن أبي ليلى رديء الحفظ كثير الوهم. وأخرجه أيضا عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي، حدثني أبي، عن أبيه عن جده، عن علي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا، فطاف طوافين، وسعى سعيين. انتهى. قال: وعيسى بن عبد الله، يقال له: مبارك، وهو متروك الحديث. انتهى من نصب الراية لأحاديث الهداية للزيلعي رحمه الله.
ومن أدلتهم على ذلك: ما أخرجه الدارقطني عن أبي بردة عمرو بن يزيد، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرته. وحجه، طوافين وسعى سعيين، وأبو بكر وعمر، وعلي وابن مسعود. قال الدارقطني: وأبو بردة متروك، ومن دونه في الإسناد ضعفاء.
ومن أدلتهم أيضا: ما أخرجه الدارقطني أيضا، عن محمد بن يحيى الأزدي، ثنا عبد الله بن داود، عن شعبة، عن حميد بن هلال، عن مطرف عن عمران بن الحصين: أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طوافين وسعى سعيين. انتهى. قال الدارقطني: يقال إن محمد بن يحيى الأزدي حدث بهذا من حفظه، فوهم في متنه، والصواب بهذا الإسناد: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قرن الحج، والعمرة، وليس فيه ذكر الطواف ولا السعي، ويقال: إنه رجع عن ذكر
(٣٨٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 383 384 385 386 387 387 388 389 390 391 392 ... » »»