أضواء البيان - الشنقيطي - ج ٤ - الصفحة ٣٨٨
الطواف والسعي، وحدث به على الصواب. كما حدثنا به محمد بن إبراهيم بن نيروز، ثنا محمد بن يحيى الأزدي به: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن. انتهى قال: وقد خالفه غيره فلم يذكر فيه الطواف، ولا السعي، كما حدثنا به أحمد بن عبد الله بن محمد بن الوكيل، ومحمد بن مخلد قالا: ثنا القاسم بن محمد بن عباد المهلبي، ثنا عبد الله بن داود، عن شعبة بهذا الإسناد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن ا ه. انتهى كله من نصب الراية.
وقد علمت منه أن جميع هذه الأحاديث الدالة على طوافين وسعيين للقارن، ليس فيها حديث قائم كما رأيت.
وقال ابن حجر في فتح الباري: واحتج الحنفية بما روي عن علي: أنه جمع بين الحج والعمرة، فطاف لهما طوافين، وسعى لهما سعيين، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل، وطرقه عن علي عند عبد الرزاق، والدارقطني، وغيرهما ضعيفة، وكذا أخرج من حديث ابن مسعود بإسناد ضعيف نحوه، وأخرج من حديث ابن عمر نحو ذلك، وفيه الحسن بن عمارة، وهو متروك، والمخرج في الصحيحين، وفي السنن عنه من طرق كثيرة الاكتفاء بطواف واحد. وقال البيهقي: إن ثبتت الرواية أنه طاف طوافين، فيحمل على طواف القدوم، وطواف الإفاضة. وأما السعي مرتين فلم يثبت، وقال ابن حزم: لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه شيء في ذلك أصلا. انتهى محل الغرض منه.
وقال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد: وأما من قال: إنه حج قارنا قرانا طاف له طوافين وسعى سعيين، كما قاله كثير من فقهاء الكوفة، فعذره ما رواه. الدارقطني من حديث مجاهد، عن ابن عمر: أنه جمع بين حج وعمرة معا وقال: سبيلهما واحد، قال: وطاف لهما طوافين، وسعى لهما سعيين وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع، كما صنعت. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه جمع بينهما، وطاف لهما طوافين، وسعى لهما سعيين، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت. وعن علي رضي الله عنه أيضا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا، فطاف طوافين، وسعى سعيين، وعن علقمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجته وعمرته طوافين، وسعى سعيين، وأبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود. وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طوافين، وسعى سعيين، وما أحسن هذا العذر لو كانت هذه الأحاديث صحيحة، بل لا يصح منها حرف واحد. أما حديث ابن عمر ففيه الحسن بن عمارة، وقال الدارقطني: لم يروه عن الحكم، غير الحسن بن عمارة، وهو متروك الحديث. وأما حديث علي الأول ففيه حفص بن أبي داود، وقال أحمد ومسلم: حفص متروك الحديث. وقال ابن خراش: هو كذاب يضع الحديث، وفيه محمد بن عبد الرحمان بن أبي ليلى ضعيف. وأما حديثه الثاني: فيرويه عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي، حدثني أبي، عن أبيه، عن جده قال الدارقطني: عيسى بن عبد الله يقال له مبارك، وهو متروك الحديث. وأما حديث علقمة، عن عبد الله فيرويه أبو بردة عمرو بن يزيد عن حماد عن إبراهيم، عن علقمة. قال الدارقطني وأبو بردة ضعيف، ومن دونه في الإسناد ضعفاء. انتهى. وفيه عبد العزيز بن أبان. قال يحيى: هو كذاب خبيث، وقال الرازي والنسائي: متروك الحديث. وأما حديث عمران بن حصين: فهو مما غلط فيه محمد بن يحيى الأزدي وحدث به من حفظه فوهم فيه، وقد حدث به على الصواب مرارا، ويقال: إنه رجع عن ذكر الطواف والسعي. انتهى محل الغرض من كلام ابن القيم.
فإذا عرفت أن أحاديث السعيين والطوافين ليس فيها شيء قائم كما رأيت، فاعلم أن الذين قالوا: بأن القارن يطوف طوافا، ويسعى سعيا كفعل المفرد، أجابوا عن الأحاديث المذكورة من وجهين.
الأول: هو ما بيناه الآن بواسطة نقل الزيلعي وابن حجر وابن القيم عن الدارقطني، وغيره من أوجه ضعفها.
والثاني: أنا لو سلمنا تسليما جدليا أن بعضها يصلح للاحتجاج وضعافها يقوي بعضها بعضا، فلا يقل مجموع طرقها عن درجة القبول فهي معارضة بما هو أقوى منها، وأصح، وأرجح، وأولى بالقبول من الأحاديث الثابتة في الصحيح، الدالة على أن النبي لم يفعل في قرانه. إلا كما يفعل المفرد كحديث عائشة المتفق عليه، وحديث ابن عباس عند البخاري وكالحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة (يكفيك طوافك بالبيت وبالصفا والمروة لحجك وعمرتك) كما قدمناه واضحا، وقد اتضح من جميع ما كتبناه في هذه المسألة: أن التحقيق فيها أن القارن يفعل كفعل المفرد لاندراج أعمال العمرة في أعمال الحج، وأن المتمتع يطوف، ويسعى لعمرته، ثم يطوف ويسعى لحجته، ومما يوضح من جهة المعنى: أنه يطوف ويسعى لحجه بعد رجوعه من منى أنه يهل بالحج بالإجماع، والحج يدخل في معناه دخولا مجزوما به الطواف والسعي، فلو كان يكفيه طواف العمرة التي حل منها، وسعيها، لكان إهلاكه بالحج إهلالا بحج، لا طواف فيه ولا سعي، وهذا ليس بحج في العرف ولا في الشرع، والعلم عند الله تعالى.
فروع تتعلق بهذه المسألة الفرع الأول: اعلم أن صفة الطواف بالبيت هي أن يبتدئ طوافه من الركن الذي فيه الحجر الأسود، فيستقبله، ويستلمه، ويقبله إن لم يؤذ الناس بالمزاحمة، فيحاذي بجميع بدنه جميع الحجر فيمر جميع بدنه على جميع الحجر وذلك بحيث يصير جميع الحجر عن يمينه ويصير منكبه الأيمن عند طرف الحجر، ويتحقق أنه لم يبق وراءه جزء من الحجر ثم يبتدئ طوافه مارا بجميع بدنه على جميع الحجر، جاعلا يساره إلى جهة البيت، ثم يمشي طائفا بالبيت، ثم يمر وراء الحجر بكسر الحاء ويدور بالبيت. فيمر على الركن اليماني، ثم ينتهي إلى ركن الحجر الأسود، وهو المحل الذي بدأ منه طوافه، فتتم له بهذا طوافة واحدة، ثم
(٣٨٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 384 385 386 387 387 388 389 390 391 392 393 ... » »»