فالجواب: أن بقاء حكم الرمل مع زوال علته، لا ينافي أن لبقائه علة أخرى، وهي أن يتذكر به المسلمون نعمة الله عليهم حيث كثرهم وقواهم بعد القلة والضعف، كما قال تعالى * (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون فى الا رض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره) * وقال تعالى عن نبيه شعيب * (واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم) *.
وصيغة الأمر في قوله: اذكروا في الآيتين المذكورتين تدل على تحتم ذكر النعمة بذلك، وإذا فلا مانع من كون الحكمة في بقاء حكم الرمل، هي تذكر نعمة الله بالقوة بعد الضعف. والكثرة بعد القلة، وقد أشار إلى هذا ابن حجر في الفتح، ومما يؤيده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل في حجة الوداع بعد زوال العلة المذكورة، فلم يمكن بعد ذلك تركه لزوالها، والعلم عند الله تعالى.
التنبيه الثاني: اعلم أن الروايات الثابتة في الصحيح في الرمل ظاهرها الاختلاف، لأن في بعضها أن الرمل ليس في الشوط كله بل ما بين الركنين اليمانيين لا رمل فيه، وقد قدمنا في حديث ابن عباس عند البخاري ما لفظه: فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها، إلا الإبقاء عليهم. ولفظه عند مسلم، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه مكة، وقد وهنتهم حمى يثرب. قال المشركون: إنه يقدم عليكم غدا قوم قد وهنتهم الحمى ولقوا منها شدة، فجلسوا مما يلي الحجر، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا ما بين الركنين ليرى المشركون جلدهم، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا. قال ابن عباس: ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم. فحديث ابن عباس هذا الذي أخرجه الشيخان: فيه التصريح بأنهم لم يرملوا فيما بين الركنين، وقد بين ابن عباس علة ذلك وهي قوله: فجلسوا مما يلي الحجر، يعني: أن المشركين جلسوا في جهة البيت الشمالية مما يلي الحجر بكسر الحاء، وإذا فالذي بين الركنين اليمانيين لا يرونه لأن الكعبة تحول بينهم وبينه، وإذا كانوا لا يرونهم مشوا فإذا ظهروا لهم عند ركن الحجر رملوا، مع أن في بعض الروايات الثابتة في الصحيح: أنه صلى الله عليه وسلم رمل الأشواط الثلاثة كلها، من الحجر إلى الحجر.
ففي صحيح مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ما لفظه: قال: (رمل