فقد استوعب الحديث أقسام الدين كلها، فإنها: إما واجب، وإما حرام، وإما مباح. والمكروه والمستحب فرعان على هذه الثلاثة غير خارجين عن المباح. وقد قال تعالى: * (فإذا قرأناه فاتبع قرءانه ثم إن علينا بيانه) * فوكل بيانه إليه سبحانه لا إلى القياسيين والآرائيين.
وقال تعالى: * (قل أرأيتم مآ أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءآلله أذن لكم أم على الله تفترون) * فقسم الحكم إلى قسمين: قسم أذن فيه وهو الحق، وقسم افترى عليه وهو ما لم يأذن فيه. فأين إذا لنا أن نقيس البلوط على التمر في جريان الربا فيه، وأن نقيس القزدير على الذهب والفضة، والخردل على البر: فإن كان الله ورسوله وصانا بهذا فسمعا وطاعة لله ورسوله، وإلا فإنا قائلون لمنازعينا * (أم كنتم شهدآء إذ وصاكم الله بهاذا) * فما لم تأتونا به وصية من عند الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فهو عين الباطل، وقد أمرنا الله برد ما تنازعنا فيه إليه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فلم يبح لنا قط أن نرد ذلك إلى رأي ولا قياس، ولا تقليد إمام ولا منام، ولا كشوف ولا إلهام، ولا حديث قلب ولا استحسان، ولا معقول ولا شريعة الديوان، ولا سياسة الملوك، ولا عوائد الناس التي ليس على شرائع المرسلين أضر منها. فكل هذه طواغيتا من تحاكم إليها أو دعا منازعه إلى التحاكم إليها فقد حاكم إلى الظاغوتا وقال تعالى: * (فلا تضربوا لله الا مثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون) *.
قالوا: ومن تأمل هذه الآية حق التأمل تبين له أنها نص على إبطال القياس وتحريمه، لأن القياس كله ضرب الأمثال للدين وتمثيل ما لا نص فيه بما فيه نص. ومن مثل ما لم ينص الله سبحانه على تحريمه أو إيجابه بما حرمه أو أوجبه فقد ضرب لله الأمثال، ولو علم سبحانه أن الذي سكت عنه مثل الذي نص عليه لأعلمنا بذلك، ولما أغفله سبحانه، وما كان ربك نسيا وليبين لنا ما نتقي كما أخبر عن نفسه بذلك إذ يقول سبحانه: * (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) *. ولما وكله إلى آرائنا ومقابيسنا التي ينقض بعضها بعضا، فهذا يقبس ما يذهب إليه على ما يزعم أنه نظيره، فيجيىء منازعه فيقيس ضد قياسه من كل وجه، ويبدى من الوصف الجامع مثل ما أبداه منازعه أو أظهر منه، ومحال أن يكون القياسان معا من عند الله، وليس أحدهما أولى من الآخر فليسا من عنده، وهذا وحده كاف في إبطال القياس، وقد قال