واحتج بعض العلماء للمخالفين في هذا. كمالك وأبي حنيفة رحمهما الله بأدلة. منها ما قاله الطحاوي: وهو أن الحجة لهم حديث أنس في قصة الربيع عمته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص) فإنه حكم بالقصاص ولم يخير. ولو كان الخيار للولي لأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم. إذ لا يجوز للحاكم أن يتحكم لمن ثبت له أحد شيئين بأحدهما من قبل أن يعلمه بأن الحق له في أحدهما. فلما حكم بالقصاص وجب أن يحمل عليه قوله (فهو بخير النظرين) أي ولي المقتول مخير بشرط أن يرضى الجاني أن يغرم الدية اه.
وتعقب ابن حجر في (فتح الباري) احتجاج الطحاوي هذا بما نصه: وتعقب بأنه قوله صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص) إنما وقع عند طلب أولياء المجني عليه في العمد القود. فأعلم أن الكتاب الله نزل على أن المجني إذا طلب القود أجيب إليه. وليس فيما ادعاه من تأخير البيان.
الثاني ما ذكره الطحاوي أيضا: من أنهم أجمعوا على أن الولي لو قال للقائل: رضيت أن تعطيني كذا على ألا أقتلك أن القاتل لا يجبر على ذلك. ولا يؤخذ منه كرها، وإن كان يجب عليه أن يحقن دم نفسه.
الثالث أن قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور (فهو بخير النظرين..) الحديث جار مجرى الغالب فلا مفهوم مخالفة له. وقد تقرر في الأصول: أن النص إذا جرى على الغالب لا يكون له مفهوم مخالفة لاحتمال قصد نفس الأغلبية دون قصد إخراج المفهوم عن حكم المنطوق. ولذا لم يعتبر جمهور العلماء مفهوم المخالفة في قوله تعالى: * (وربائبكم اللاتى فى حجوركم) *. لجريه على الغالب، وقد ذكرنا هذه المسألة في هذا الكتاب المبارك مرارا.
وإيضاح ذلك في الحديث أن مفهوم قوله (فهو بخير النظرين) أن الجاني لو امتنع من قبول الدية وقدم نفسه للقتل ممتنعا من إعطاء الدية أنه يجبر على إعطائها. لأن هذا أحد النظرين اللذين خير الشارع ولي المقتول بينهما. والغالب أن الإنسان يقدم نفسه على ماله فيفتدى بماله من القتل. وجريان الحديث على هذا الأمر الغالب يمنع من اعتبار مفهوم مخالفته كما ذكره أهل الأصول، وعقده في (مراقي السعود) بقوله في موانع اعتبار دليل الخطاب، أعني مفهوم المخالفة: