أضواء البيان - الشنقيطي - ج ٣ - الصفحة ٩٩
وإيضاح ذلك في الحديث أن مفهوم قوله (فهو بخير النظرين) أن الجاني لو امتنع من قبول الدية وقدم نفسه للقتل ممتنعا من إعطاء الدية أنه يجبر على إعطائها. لأن هذا أحد النظرين اللذين خير الشارع ولي المقتول بينهما. والغالب أن الإنسان يقدم نفسه على ماله فيفتدى بماله من القتل. وجريان الحديث على هذا الأمر الغالب يمنع من اعتبار مفهوم مخالفته كما ذكره أهل الأصول، وعقده في (مراقي السعود) بقوله في موانع اعتبار دليل الخطاب، أعني مفهوم المخالفة:
* أو جهل الحكم أو النطق انجلب * للسؤل أو جري على الذي غلب * ومحل الشاهد قوله (أو جري على الذي غلب) إلى غير ذلك من الأدلة التي احتجوا بها.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر لي رجحانه بالدليل في هذه المسألة: أو ولي المقتول هو المخير بين الأمرين، فلو أراد الدية وامتنع الجاني فله إجباره على دفعها. لدلالة الحديث المتفق عليه على ذلك، ودلالة الآية المتقدمة عليه، ولأن الله يقول: * (ولا تقتلوا أنفسكم) *، ويقول: * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) *.
ومن الأمر الواضح أنه إذا أراد إهلاك نفسه صونا لماله للوارث أن الشارع يمنعه من هذا التصرف الزائغ عن طريق الصواب، ويجبره على صون دمه بماله.
وما احتج به الطحاوي من الإجماع على أنه لو قال له: أعطني كذا على ألا أقتلك لا يجبر على ذلك يجاب عنه بأنه لو قال: أعطني الدية المقررة في قتل العمد فإنه يجبر على ذلك. لنص الحديث، والآية المذكورين.
ولو قال له: أعطني كذا غير الدية لم يجبر. لأنه طلب غير الشيء الذي أوجبه الشارع، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الخامسة جمهور العلماء على أن القتل له ثلاث حالات:
الأولى: العمد، وهو الذي فيه السلطان المذكور في الآية كما قدمنا.
والثانية: شبه العمد، والثالثة: الخطأ.
وممن قال بهذا: الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، وأحمد، والشافعي. ونقله في المغني عن عمر، وعلي رضي الله عنهما، والشعبي والنخعي، وقتادة، وحماد، وأهل العراق، والثوري، وغيرهم.
وخالف الجمهور مالك رحمه الله فقال: القتل له حالتان فقط. الأولى العمد والثانية الخطأ. وما يسميه غيره شبه العمد جعله من العمد. واستدل رحمه الله بأن الله لم يجعل في كتابه العزيز واسطة بين العمد والخطأ. بل
(٩٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 ... » »»