الجاني، والعفو مجانا في غير مقابل وهو أحد قولي الشافعي.
قال النووي في شرح مسلم: وبه قال سعيد بن المسيب، وابن سيرين وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وعزاه ابن حجر في الفتح إلى الجمهور.
وخالف في ذلك مالك، وأبو حنيفة، والثوري رحمهم الله فقالوا: ليس للولي إلا القصاص، أو العفو مجانا. فلو عفا على الدية وقال الجاني: لا أرضى إلا القتل، أو العفو مجانا، ولا أرضى الدية. فليس لولي المقتول إلزامه الدية جبرا.
واعلم أن الذين قالوا: إن الخيار للولي بين القصاص والدية اختلفوا في عين ما يوجبه القتل عمدا إلى قولين: أحدهما أنه القود فقط. وعليه فالدية بدل منه. والثاني أنه أحد شيئين: هما القصاص والدية.
وتظهر ثمرة هذا الخلاف فيما لو عفا عن الجاني عفوا مطلقا، لم يصرح فيه بإرادة الدية ولا العفو عنها. فعلى أن الواجب عينا القصاص فإن الدية تسقط بالعفو المطلق. وعلى أن الواجب أحد الأمرين فإن الدية تلزم مع العفو المطلق. أما لو عفا على الدية فهي لازمة، ولو لم يرض الجاني عند أهل هذا القول. والخلاف المذكور روايتان عن الشافعي، وأحمد رحمهما الله.
واحتج من قال: بأن الخيار بين القصاص والدية لولي المقتول بقوله صلى الله عليه وسلم: (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يفدى، وإما أن يقتل) أخرجه الشيخان، والإمام أحمد، وأصحاب السنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. لكن لفظ الترمذي: (إما أن تعفو وإما أن يقتل). ومعنى (يفدى) في بعض الروايات، (ويودى) في بعضها: يأخذ الفداء بمعنى الدية. وقوله (يقتل) بالبناء للفاعل: أي يقتل قاتل وليه.
قالوا: فهذا الحديث المتفق عليه نص في محل النزاع، مصرح بأن ولي المقتول مخير بين القصاص وأخذ الدية. وأن له إجبار الجاني على أي الأمرين شاء. وهذا الدليل قوي دلالة ومتنا كما ترى.
واحتجوا أيضا بقوله تعالى: * (فمن عفى له من أخيه شىء فاتباع بالمعروف وأدآء إليه بإحسان) *. قالوا: إن الله جل وعلا رتب الاتباع بالدية بالفاء على العفو في قوله: * (فمن عفى له من أخيه شىء فاتباع بالمعروف) *. وذلك دليل واضح على أنه بمجرد العفو تلزم الدية، وهو دليل قرآني قوي أيضا.