تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٩١٦
وتقريعا * (هذا الذي كنتم به تكذبون) *. فذكر لهم ثلاث أنواع من العذاب: عذاب الجحيم، وعذاب التوبيخ واللوم، وعذاب الحجاب عن رب العالمين، المتضمن لسخطه وغضبه عليهم، وهو أعظم عليهم من عذاب النار. ودل مفهوم الآية، على أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة في الجنة، ويتلذذون بالنظر إليه أعظم من سائر اللذات، ويبتهجون بخطابه، ويفرحون بقربه، كما ذكر الله ذلك في عدة آيات من القرآن، وتواتر فيه النقل عن رسول صلى الله عليه وسلم. وفي هذه الآيات، التحذير من الذنوب، فإنها ترين على القلب وتغطيه، شيئا فشيئا. حتى ينطمس نوره، وتموت بصيرته، فتنقلب عليه الحقائق، فيرى الباطل حقا، والحق باطلا، وهذا من أعظم عقوبات الذنوب. * (كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون إن الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون) * لما ذكر أن كتاب الفجار في أسفل الأمكنة وأضيقها، ذكر أن كتاب الأبرار في أعلاها، وأوسعها، وأفسحها. وأن كتابهم * (كتاب مرقوم يشهده المقربون) * من الملائكة الكرام، وأرواح الأنبياء، والصديقين والشهداء، وينوه الله بذكرهم في الملأ الأعلى. و (عليون) اسم لأعلى الجنة. فلما ذكر كتابهم، ذكر أنهم في نعيم، وهو اسم جامع لنعيم القلب، والروح، والبدن. * (على الأرائك) *، أي: على السرر المزينة بالفرش الحسان. * (ينظرون) * إلى ما أعد الله لهم من النعيم، وينظرون إلى وجه ربهم الكريم. * (تعرف) * أيها الناظر * (في وجوههم نضرة النعيم) *، أي: بهاءه ونضارته ورونقه. فإن توالي اللذات، والمسرات، والأفراح، يكسب الوجه نورا، وحسنا، وبهجة. * (يسقون من رحيق) * وهو من أطيب ما يكون من الأشربة وألذها. * (مختوم) * ذلك الشراب * (ختامه مسك) *. يحتمل أن المراد مختوم عن أن يداخله شيء ينقص لذته، أو يفسد طعمه، وذلك الختام، الذي ختم به مسك. ويحتمل أن المراد أنه الذي يكون في آخر الإناء، الذي يشربون منه الرحيق حثالة، وهي المسك الأذفر. فهذا الكدر منه، الذي جرت العادة في الدنيا، أنه يراق، يكون في الجنة بهذه المثابة. * (وفي ذلك) * النعيم المقيم، الذي لا يعلم حسنه ومقداره إلا الله. * (فليتنافس المتنافسون) *، أي: فليتسابقوا في المبادرة إليه بالأعمال الموصلة إليه، فهذا أولى ما بذلت فيه نفائس الأنفاس، وأحرى ما تزاحمت للوصول إليه فحول الرجال. * (و) * هذا الشراب * (مزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون) * صرفا وهي أعلى أشربة الجنة على الإطلاق، فلذلك كانت خالصة للمقربين، الذين هم أعلى الخلق منزلة، وممزوجة لأصحاب اليمين، أي: مخلوطة بالرحيق وغيره من الأشربة اللذيذة. * (إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون * وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين * وإذا رأوهم قالوا إن ه ؤلاء لضالون * ومآ أرسلوا عليهم حافظين * فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون * على الأرآئك ينظرون * هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون) * لما ذكر تعالى جزاء المجرمين، وجزاء المحسنين، وذكر ما بينهما من التفاوت العظيم، أخبر أن المجرمين كانوا في الدنيا، يسخرون بالمؤمنين، ويستهزئون بهم، ويضحكون منهم، فيتغامزون بهم، عند مرورهم عليهم، احتقارا لهم وازداراء، ومع هذا تراهم مطمئنين، لا يخطر الخوف على بالهم. * (وإذا انقلبوا إلى أهلهم) * صباحا ومساء * (انقلبوا فكهين) *، أي: مسرورين مغتبطين. وهذا أشد ما يكون من الاغترار، أنهم جمعوا بين غاية الإساءة، مع الأمن في الدنيا، حتى كأنهم قد جاءهم كتاب وعهد من الله، أنهم من أهل السعادة، وقد حكموا لأنفسهم، أنهم أهل الهدى، وأن المؤمنين ضالون، افتراء على الله، وتجرؤا على القول عليه بلا علم. قال تعالى: * (وما أرسلوا عليهم حافظين) *، أي: وما أرسلوا وكلاء على المؤمنين، ملزمين بحفظ أعمالهم، حتى يحرصوا على رميهم بالضلال، وما هذا منهم، إلا تعنت وعناد وتلاعب، ليس له مستند ولا برهان، ولهذا كان جزاؤهم في الآخرة، من جنس عملهم. قال تعالى: * (فاليوم) *، أي: يوم القيامة، * (الذين آمنوا من الكفار يضحكون) * حين يرونهم في غمرات العذاب يتقلبون، وقد ذهب عنهم ما كانوا يفترون. والمؤمنون في غاية الراحة والطمأنينة * (على الأرائك) * وهي السرر المزينة. * (ينظرون) * إلى ما أعد الله لهم من النعيم، وينظرون إلى وجه ربهم الكريم. * (هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون) *، أي: هل جوزوا من جنس عملهم؟ فكما ضحكوا في الدنيا من المؤمنين، ورموهم بالضلال، ضحك المؤمنون منهم في الآخرة، حين رأوهم في العذاب والنكال، الذي هو عقوبة الغي والضلال.
(٩١٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 911 912 913 914 915 916 917 918 919 920 921 ... » »»