تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٩١٧
نعم ثوبوا ما كانوا يفعلون، عدلا من الله، وحكمة، والله عليم حكيم. سورة الانشقاق * (إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت وأذنت لربها وحقت يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا إنه كان في أهله مسرورا إنه ظن أن لن يحور بلى إن ربه كان به بصيرا) * يقول تعالى مبينا لما يكون في يوم القيامة من تغير الأجرام العظام: * (إذا السماء انشقت) *، أي: انفطرت وتمايز بعضها من بعض، وانتثرت نجومها، وخسف شمسها وقمرها. * (وأذنت لربها) *، أي: استمعت لأمره، وألقت سمعها، وأصاخت لخطابه. * (وحقت) *، أي: حق لها ذلك، فإنها مسخرة، مدبرة، تحت مسخر ملك عظيم لا يعصى أمره، ولا يخالف حكمه. * (وإذا الأرض مدت) *، أي: رجفت وارتجت، ونسفت عليها جبالها، ودك ما عليها من بناء ومعلم، فسويت، ومدها الله مد الأديم، حتى صارت واسعة جدا، تسع أهل الموقف على كثرتهم، فتصير قاعا صفصفا، لا ترى فيها عوجا، ولا أمتا. * (وألقت ما فيها) * من الأموات والكنوز. * (وتخلت) * منهم، فإنه ينفخ في الصور فتخرج الأموات من الأجداث إلى وجه الأرض، وتخرج الأرض كنوزها، حتى تكون كالأسطوان العظيم، يشاهده الخلق ويتحسرون على ما هم فيه يتنافسون. * (وأذنت لربهم وحقت * يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه) * أي: إنك ساع إلى الله، وعامل بأوامره ونواهيه، ومتقرب إليه إما بالخير، وإما بالشر، ثم تلاقي الله يوم القيامة فلا تعدم منه جزاء بالفضل أو العدل، بالفضل إن كنت سعيدا، وبالعقوبة العادلة إن كنت شقيا. ولهذا ذكر تفضيل الجزاء، فقال: * (فأما من أوتي كتابه بيمينه) *، وهم أهل السعادة. * (فسوف يحاسب حسابا يسيرا) * وهو العرض اليسير على الله، فيقرره الله بذنوبه، حتى إذا ظن العبد أنه قد هلك، قال الله تعالى: * (إني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أسترها لك اليوم) *. * (وينقلب إلى أهله) * في الجنة. * (مسرورا) * لأنه قد نجا من العذاب وفاز بالثواب. * (وأما من أوتي كتابه وراء ظهره) *، أي: بشماله من وراء ظهره. * (فسوف يدعو ثبورا) * من الخزي والفضيحة، وما يجد في كتابه من الأعمال التي قدمها ولم يتب منها. * (ويصلى سعيرا) *، أي: تحيط به السعير من كل جانب ويقبل على عذابها، وذلك * (إنه كان في أهله مسرورا) * لا يخطر البعث على باله، وقد أساء، ولا يظن أنه راجع إلى ربه وموقوف بين يديه. * (بلى إن ربه كان به بصيرا) * فلا يحسن أن يتركه سدى لا يؤمر ولا ينهى ولا يثاب ولا يعاقب. * (فلا أقسم بالشفق والليل وما وسق والقمر إذا اتسق لتركبن طبقا عن طبق فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون بل الذين كفروا يكذبون والله أعلم بما يوعون فبشرهم بعذاب أليم إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون) * أقسم في هذا الموضع بآيات الليل، فأقسم بالشفق الذي هو بقية نور الشمس، الذي هو مفتتح الليل. * (والليل وما وسق) *، أي: احتوى عليه من حيوانات وغيرها. * (والقمر إذا اتسق) *، أي: امتلأ نورا بإبداره، وذلك أجسم ما يكون وأكثر منافع، والمقسم عليه قوله: * (لتركبن) *، أي: أيها الناس * (طبقا عن طبق) *، أي: أطوارا متعددة وأحوالا متباينة من النطفة إلى العلقة، إلى المضغة، إلى نفخ الروح. ثم يكون وليدا وطفلا ومميزا، ثم يجري عليه قلم التكليف، والأمر والنهي، ثم يموت بعد ذلك، ثم يبعث ويجازى بأعماله. فهذه الطبقات المختلفة الجارية على العبد، دالة على أن الله وحده هو المعبود، الموحد، المدبر لعباده، بحكمته ورحمته، وأن العبد فقير، عاجز، تحت تدبير العزيز الرحيم. ومع هذا، فكثير من الناس لا يؤمنون * (وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون) *، أي: لا يخضعون للقرآن، ولا ينقادون لأوامره، ونواهيه. * (بل الذين كفروا يكذبون) *، أي: يعاندون الحق بعد ما تبين، فلا يستغرب عدم إيمانهم وانقيادهم للقرآن، فإن المكذب بالحق عنادا، لا حيلة فيه. * (والله أعلم بما يوعون) *، أي: بما يعملونه وينوونه سرا، فالله يعلم سرهم وجهرهم، وسيجازيهم بأعمالهم، ولهذا قال: * (فبشرهم بعذاب أليم) *، وسميت البشارة بشارة لأنها تؤثر في البشرة سرورا أو غما. فهذه حال أكثر الناس، التكذيب بالقرآن، وعدم الإيمان به. ومن الناس فريق هداهم الله، فآمنوا بالله، وقبلوا ما جاءتهم به الرسل، فآمنوا وعملوا الصالحات. فهؤلاء لهم أجر غير ممنون، أي: غير
(٩١٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 912 913 914 915 916 917 918 919 920 921 922 ... » »»