فكذا هذا فلما نص على دفع حاجة الأكل فالتمليك الذي هو سبب لدفع كل الحاجات التي من جملتها الأكل أجوز فإنه حينئذ دافع لحاجة الأكل وغيره، وذكر الواني أن الإطعام جعل الغير طاعما أي آكلا لأن حقيقة طعمت الطعام أكلته، والهمزة تعديه إلى المفعول الثاني أي جعلته آكلا، وأما نحو أطعمتك هذا الطعام فيكون هبة وتمليكا بقرينة الحال، قالوا: والضابط أنه إذا ذكر المفعول الثاني فهو للتمليك وإلا فللإباحة، هذا والمذكور في كتب اللغة أن الإطعام إعطاء الطعام وهو أعم من أن يكون تمليكا أو إباحة انتهى فلا تغفل.
ويجوز الجمع بين الإباحة والتمليك لبعض المساكين دون البعض كما إذا ملك ثلاثين وأطعم ثلاثين غداءا وعشاءا وكذا لرجل واحد في إحدى روايتين كأن غداة مثلا وأعطاه مدا وإن أعطى مسكينا واحدا ستين يوما أجزأه وإن أعطاه في يوم واحد لم يجزه إلا عن يومه لأن المقصود سد خلة المحتاج، والحاجة تتجدد في كل يوم، فالدفع إليه في اليوم الثاني كالدفع إليه في غيره، وهذا في الإباحة من غير خلاف، وأما التمليك من مسكين واحد بدفعات فقد قيل: لا يجزيه، وقيل: يجزيه لأن الحاجة إلى التمليك قد تتجدد في يوم واحد بخلاف ما إذا دفع بدفعة لأن التفريق واجب بالنص، وخالف الشافعية، فقالوا: لا بد من الدفع إلى ستين مسكينا حقيقة فلا يجزي الدفع لواحد في ستين يوما، وهو مذهب مالك، والصحيح من مذهب أحمد - وبه قال أكثر العلماء - لأنه تعالى نص على ستين مسكيناف، وبتكرر الحاجة في مسكين واحد لا يصير هو ستين فكان التعليل بأن المقصود سد خلة المحتاج الخ مبطلا لمقتضى النص فلا يجوز، وأصحابنا أشد موافقة لهذا الأصل، ولذا قالوا: لا يجزىء الدفع لمسكين واحد وظيفة ستين بدفعة واحدة معللين له بأن التفريق واجب بالنص مع أن تفريق الدفع غير مصرح به، وإنما هو مدلول التزامي لعدد المساكين فالنص على العدد أولى لأنه المستلزم، وغاية ما يعطيه كلامهم أنه بتكرر الحاجة يتكرر المسكين حكما فكان تعددا حكما، وتمامه موقوف على أن ستين مسكينا في الآية مراد به الأعم من الستين حقيقة أو حكما. / جسم] ولا يخفى أنه مجاز فلا مصير إليه بموجبه، فإن قلت: المعنى الذي باعتباره يصير اللفظ مجازا ويندرج فيه التعدد الحكمي ما هو؟ قلت: هو الحاجة فيكون ستين سكينا مجازا عن ستين حاجة، وهو أعم من كونها حاجات ستين أو حاجات واحد إذا تحقق تكررها إلا أن الظاهر إنما هو عدد معدوده ذوات المساكين مع عقلية أن العدد مما يقصد لما في تعميم الجميع من بركة الجماعة وشمول المنفعة واجتماع القلوب على المحبة والدعاء - قاله في فتح القدير - وهو كلام متين يظهر منه ترجيح مذهب الجمهور، وذهب الأصحاب إلى أنه لا يشترط اتحاد نوع المدفوع لكل من المساكين فلو دفع لواحد بعضا من الحنطة وبعضا من الشعير مثلا جاز إذا كان المجموع قدر الواجب كأن دفع ربع صاع من بر ونصف صاع من شعير، وجاز نحو هذا التكميل لاتحاد المقصود - وهو الإطعام - ولا يجوز دفع قيمة القدر الواجب من منصوص عليه، وهو البر. والشعير. ودقيق كل، وسويقه. والزبيب. والتمر إذا كانت من منصوص عليه آخر إلا أن يبلغ المدفوع الكمية المقدرة شرعا فلو دفع نصف صاع تمر يبلغ قيمة نصف صاع بر لا يجوز، فالواجب عليه أن يتم للذين أعطاهم القدر المقدر من ذلك الجنس الذي دفعه إليهم فإن لم يجدهم بأعيانهم استأنف في غيرهم، ومن غير المنصوص كالأرز. والعدس يجوز كما إذا دفع ربع صاع من أرز يساوي قيمة نصف صاع من بر مثلا، وذلك لأنه لا اعتبار لمعنى النص في المنصوص عليه وإنما الاعتبار في غير المنصوص عليه، ونقل في ذلك خلاف الشافعي رحمه الله تعالى فلا يجوز دفع القيمة عنده مطلقا،