ذلك بعض الملك الذي استوهبه فالمختص على تقدير إفادة الآية الاختصاص مجموع ما تضمنه قوله تعالى: * (فسخرنا) * الخ فالظاهر عدم إكفار من يدعي استخدام شيء من الجن، ونحن قد شاهدنا مرارا من يدعي ذلك وشاهدنا آثار صدق دعواه على وجه لا ينكره إلا سوفسطائي أو مكابر.
ومن الاتفاقيات الغريبة أني اجتمعت يوم تفسيري لهذه الآية برجل موصلي يدعي ذلك وامتحنته بما يصدق دعواه في محفل عظيم ففعل وأتى بالعجب العجاب، وكانت الأدلة على نفي احتمال الشعبذة ونحوها ظاهرة لذوي الألباب إلا أن لي إشكالا في هذا المقام وهو أن الخادم الجني قد يحضر الشيء الكثيف من نحو صندوق مقفل بين جمع في حجرة أغلقت أبوابها وسدت منافذها ولم يشعر به أحد، ووجه الإشكال أن الجني لطيف فكيف ستر الكثيف فلم ير في الطريق وكيف أخرجه من الصندوق وأدخله الحجرة وقد سددت المنافذ، وتلطف الكثيف ثم تكثفه بعد مما لا يقبله إلا كثيف أو سخيف، ومثل ذلك كون الإحضار المذكور على نحو إحضار عرش بلقيس بالإعدام والإيجاد كما يقوله الشيخ الأكبر أو بوجه آخر كما يقول غيره، ولعل الشرع أيضا يأبى هذا، وسرعة المرور إن نفعت ففي عدم الرؤية في الطريق، وقصارى ما يقال لعل للجني سحرا أو نحوه سلب به الإحساس فتصرف بالصندوق ومنافذ الحجرة حسبما أراد وأتى بالكثيف يحمله ولم يشعر به أحد من الناس فإن تم هذا فبها وإلا فالأمر مشكل، وظاهر جعل جملة * (قال رب اغفر لي) * تفسيرا للإنابة يقتضي أن الاستغفار مقصود لذاته لا وسيلة للاستيهاب، وفي كون الاستيهاب مقصودا لذاته أيضا احتمالان.
وتقديم الاستغفار على تقدير كونهما مقصودين بالذات لمزيد اهتمامه بأمر الدين وقد يجعل مع هذا وسيلة للاستيهاب المقصود أيضا فإن افتتاح الدعاء بنحو ذلك أرجى للإجابة، وجوز على بعد بعد التزام الاستئناف في الجملة كون الاستيهاب هو المقصود لذاته والاستغفار وسيلة له، وسيجىء إن شاء الله تعالى ما قيل في الاستئناس له.
وقرىء * (من بعدي) * بفتح الياء وحكى القراءة به في لي، وقوله تعالى: * (إنك أنت الوهاب) * تعليل للدعاء بالمغفرة والهبة معا لا للدعاء بالأخيرة فقط فإن المغفرة أيضا من أحكام وصف الوهابية قطعا، ومن جوز كون الاستيهاب هو المقصود استأنس له بهذا التعليل ظنا منه أنه للدعاء بالأخيرة فقط وكذا بعدم التعرض لإجابة الدعاء بالأولى فإن الظاهر أن قوله تعالى:
* (فسخرنا له الريح تجرى بأمره رخآء حيث أصاب) *.
* (فسخرنا له الريح) * إلى آخره تفريع على طلبه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ولو كان الاستغفار مقصودا أيضا لقيل فغفرنا له وسخرنا له الريح الخ. وأجيب بأنه يجوز أن يقال: إن المغفرة لمن استغفر لا سيما الأنبياء عليهم السلام لما كانت أمرا معلوما بخلاف هبة ملك لمن استوهب لم يصرح بها واكتفى بدلالة ما ذكر في حيز الفاء مع ما في الآية بعد على ذلك، وتقوى هذه الدلالة على تقدير أن يكون طلب الملك علامة على قبول استغفاره وإجابة دعائه فتأمل، والتسخير التذليل أي فذللناها لطاعته إجابة لدعوته، وقيل أدمنا تذليلها كما كان وقرأ الحسن. وأبو رجاء. وقتادة. وأبو جعفر * (الرياح) * بالجمع قيل: وهو أوفق لما شاع من أن الريح تستعمل في الشر والرياح في الخير، وقد علمت أن ذلك ليس بمطرد، وقوله تعالى: * (تجري بأمره) * بيان لتسخيرها له عليه السلام أو حال أي جارية بأمره * (رخاء) * أي لينة من الرخاوة لا تحرك لشدتها. واستشكل هذا بأنه ينافي قوله تعالى: * (ولسليمان الريح عاصفة) * لوصفها ثمت بالشدة وهنا باللين.
وأجيب بأنها كانت في أصل الخلقة شديدة لكنها صارت لسليمان لينة سهلة أو أنها تشتد عند الحمل وتلين