تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٢٣ - الصفحة ٢٠١
ذلك دليلا على نبوته قاهرا للمبعوث إليهم ولن تكون معجزة حتى تخرق العادات فذلك معنى * (لا ينبغي لأحد من بعدي) * فقوله من بعدي بمعنى من دوني وغيري كما في الوجه السابق، وحسن طلب ذلك معجزة مع قطع النظر عن الألف أنه عليه السلام كان زمن الجبارين وتفاخرهم بالملك ومعجزة كل نبي من جنس ما اشتهر في عصره، ألا ترى أنه لما اشتهر السحر وغلب في عهد الكليم عليه السلام جاءهم بما يتلقف ما أتوا به. ولما اشتهر الطب في عهد المسيح عليه السلام جاءهم بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، ولما اشتهر في عهد خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم الفصاحة أتاهم بكلام لم يقدروا على أقصر فصل من فصوله. واعترض بأن اللائق بطلب المعجزة أن يكون في ابتداء النبوة وظاهر " النظم الجليل " أن هذا الطلب كان بعد الفتنة والإنابة كيف لا وقوله تعالى: * (قال) * الخ بدل من * (أناب) * وتفسير له والفتنة لم تكن في الابتداء كما يشعر به النظم. وأجيب بأنا لا نسلم أن اللائق بطلب المعجزة كونها في ابتداء النبوة وإن سلم فليس في الآية ما ينافي وقوعه، وكذا وقوع الفتنة في ابتدائها لا سيما إن قلنا: إن قوله تعالى: * (قال رب اغفر لي) * الخ ليس تفسيرا لأناب. وأجيب على القول بأن الفتنة كانت سلب الملك بأن رجوعه بعد كالابتداء.
وذكر بعض الذاهبين إلى ذلك أنه عليه السلام أقام في ملكه قبل هذه الفتنة عشرين سنة وأقام بعدها عشرين سنة أيضا وقالوا في هذه الآية: إن مصب الدعاء الوصف فمعنى الآية هب لي ملكا لا ينبغي لأحد غيري ممن هو في عصري بأن يسلبه مني كهذه السلبة.
وروي هذا المعنى عن عطاء بن أبي رباح. وقتادة، وحاصله الدعاء بعدم سلب ملكه عنه في حياته، ويفهم مما في سياق التفريع إحابة سؤاله عليه السلام وأن ما وهب له لا يسلب عنه بعد. وجوز أن يكون هذا دعاء بعدم السلب وإن لم يتقدم سلب ودوام نعمة الله عز وجل مما يحسن الدعاء به والآثار ملأى من ذلك فهذا الوجه لا يتعين بناؤه على تفسير الفتنة بسلب الملك على ما حكى سابقا.
وقال الجبائي: إنه عليه السلام طلب ملكا لا يكون لغيره أبدا ولم يطلب ذلك إلا بعد الإذن فإن الأنبياء عليهم السلام لا يطلبون إلا ما يؤذن لهم في طلبه وجائز أن يكون الله تعالى قد أعلمه أنه إن سأل ذلك كان أصلح له في الدين وأعلمه أن لا صلاح لغيره فيه وهو نظير قول القائل: اللهم اجعلني أكثر أهل زماني مالا إذا علمت أن ذلك أصلح لي فإنه حسن لا ينسب قائله إلى شح اه‍. قيل ويجوز أن يكون معنى الآية عليه هب لي ملكا ينبغي لي حكمة ولا ينبغي حكمة لأحد غيري وأراد بذلك طلب أن يكون عليه السلام متأهلا لنعم الله عز وجل وهو كما ترى. وقيل غير ذلك، ومن أعجب ما رأيت ما قاله السيد المرتضى: إنه يجوز أن يكون إنما سأل ملك الآخرة وثواب الجنة ويكون معنى قوله: * (لا ينبغي لأحد من بعدي) * لا يستحقه بعد وصوله إليه من حيث لا يصح أن يعمل ما يستحق به ذلك لانقطاع التكليف، ولا يخفى أنه مما لا يرتضيه الذوق والتفريع الآتي آب عنه كل الإباء، واستدل بعضهم بالآية على بعض الأقوال المذكورة فيها على تكفير من ادعى استخدام الجن وطاعتهم له وأيد ذلك بالحديث السابق، والحق أن استخدام الجن الثابت لسليمان عليه السلام لم يكن بواسطة أسماء ورياضات بل هو تسخير إلهي من غير واسطة شيء وكان أيضا على وجه أتم وهو مع
(٢٠١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 196 197 198 199 200 201 202 203 204 205 206 ... » »»