وتلافيهم لما فرط منهم من فرطات قلما يخلو عنها الإنسان بحكم جبلته وتداركهم لها بالتوبة والإنابة والالتفات إلى الاسم الجليل أولا لتهويل الخطاب وتربية المهابة، والإظهار في موضع الإضمار ثانيا لإبراز مزيد الاعتناء بأمر المؤمنين توفية لكل من مقامي الوعيد والوعد حقه كذا قال بعض الأجلة في تفسير الآية. ووراء ذلك أقوال فقيل الأمانة الطاعة لأنها لازمة الوجود كما أن الأمانة لازمة الأداء والكلام تقرير الوعد الكريم الذي ينبىء عنه قوله تعالى: * (ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما) * (الأحزاب: 71) بجعل تعظيم شأن الطاعة ذريعة إلى ذلك بأن من قام بحقوق مثل هذا الأمر العظيم الشأن وراعاه فهو جدير بأن يفوز بخير الدارين. وتعقب بأن جعل الأمانة التي شأنها أن تكون من جهته تعالى عبارة عن الطاعة التي هي من أفعال المكلفين التابعة للتكليف بمعزل عن التقريب وإن حمل الكلام على التقرير بالوجه الذي قرر يأباه وصف الإنسان بالظلم والجهل أولا وتعليل الحمل بتعذيب فريق والتوبة على فريق ثانيا، وقد يقال: مراد ذلك القائل أن الأمانة هي الطاعة من حيث أمره عز وجل بها وأن قوله تعالى: * (إنه كان) * الخ على معنى أنه كان كذلك إن لم يراع حقها فتأمل. وأخرج ابن جرير. وغيره عن ابن عباس أن الأمانة الفرائض وروى نحوه عن سعيد بن جبير. وهو غير ما ذكر أولا بناء على أن التكليفات الشرعية مراد بها المعنى المصدري دون اسم المفعول، وقيل: الصلاة فقد روى عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان إذا دخل وقت الصلاة اصفر وجهه الشريف وتغير لونه فسئل عن ذلك فقال: إنه دخل على وقت أمانة عرضها الله تعالى على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وقد حملتها أنا مع ضعفي فلا أدري كيف أؤديها، وحكى السفيري أنها الغسل من الجنابة، وقيل: الصلاة والصيام والغسل من الجنابة فقد أخرج عبد الرزاق. وعبد بن حميد عن زيد بن أسلم قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الأمانة ثلاثة الصلاة والصيام والغسل من الجنابة " وفي رواية عن السدي والضحاك أنها أمانات الناس المعروفة والوفاء بالعهود. وقيل هي أن لا تغش مؤمنا ولا معاهدا في شيء قليل ولا كثير، وقيل: هي كلمة التوحيد لأنها المدار الأعظم للتكليفات الشرعية. وقيل هي الأعضاء والقوى، فقد أخرج ابن أبي الدنيا في الورع. والحكيم الترمذي عن عبد الله بن عمر ورضي الله تعالى عنهما قال: " أول ماخلق الله تعالى من الإنسان فرجه ثم قال هذه أمانتي عندك فلا تضعها إلا في حقها فالفرج أمانة والسمع أمانة والبصر أمانة.
ولا يخفى أن تفسير الأمانة في الآية بالأعضاء مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، والخبر المذكور إن صح لا يدل عليه، ومثله بل دونه بكثير أنها حروف التهجي ولا يكاد يقول به إلا أطفال المكاتب، وأقرب الأقوال المذكورة للقبول القول بأنها الفرائض أي من فعل وترك، وتخصيص شيء منها بالذكر في خبر إن صح لا يدل على أنه الأمانة في الآية لا غيره وكم يخص بعض أفراد العام بالذكر لنكتة، وقال أبو حيان: الظاهر أنها كل ما يؤتمن عليه من أمر ونهي وشأن دين ودنيا، ويعم هذا المعنى جميع ما تقدم، وفيها أقوال أخر ستأتي إن شاء الله تعالى، واختلفت كلمات الذاهبين إلى أنها الفرائض في تحقيق ما بعد فقيل الكلام على حذف مضاف والتقدير إنا عرضنا الأمانة على أهل السموات الخ.
وحكى ذلك عن الجبائي وليس بشيء، وقيل الكلام على ظاهره وكذا العرض والإباء وذلك أنه عز وجل خلق للسماوات والأرض والجبال فهما وتمييزا فخيرت في الحمل فأبت وروى ذلك عن ابن عباس.