تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٢٢ - الصفحة ٢٢٦
أولا لما قربا إلى المدينة رأياه يرعى غنما فسألهما فأخبراه فقال: أمعكما آية؟ فقالا: نشفي المريض ونبرىء الأكمه والأبرص وكان له ولد مريض فمسحاه فبرىء فآمن، وحمل آمن على أظهر الإيمان خلاف الظاهر، والذي يترجح في نظري أنه كان مؤمنا بالمرسلين قبل مجيئه ونصحه لقومه ولا جزم لي بإيمانه ولا عدمه قبل إرسال الرسل، وظواهر الأخبار في ذلك متعارضة ومع هذا لم يتحقق عندي صحة شيء منها والله أعلم تعالى أعلم بحقيقة الحال.
وجاء * (من أقصى المدينة) * هنا مقدما على * (رجل) * عكس ما جاء في القصص وجعله أبو حيان من التفنن في البلاغة.
وقال الخفاجي: قدم الجار والمجرور على الفاعل الذي حقه التقديم بيانا لفضله إذ هداه الله تعالى مع بعده عنهم وإن بعده لم يمنعه عن ذلك ولذا عبر بالمدينة هنا بعد التعبير بالقرية إشارة إلى السعة وإن الله تعالى يهدي من يشاء سواء قرب أو بعد، وقيل قدم للاهتمام حيث تضمن الإشارة إلى أن إنذارهم قد بلغ أقصى المدينة فيشعر بأنهم أتوا بالبلاغ المبين، وقيل إنه لو أخرتوهم تعلقه بيسعى فلم يفد أنه من أهل المدينة مسكنه في طرفها وهو المقصود، وجملة * (يسعى) * صفة * (رجل) * وجوز كونها حالا منه من جوز مجىء الحال من النكرة، وقوله تعالى: * (قال) * استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قال عند مجيئه؟ فقيل: قال * (يا قوم اتبعوا المرسلين) * وجوز كونه بيانا للسعي بمعنى قصد وجه الله عز وجل ولا يخفى ما فيه، والتعرض لعنوان رسالتهم لحثهم على اتباعهم كما أن خطابهم بياقوم لتأليف قلوبهم واستمالتها نحو قبول نصيحته، وقوله تعالى:
* (اتبعوا من لا يس‍الكم أجرا وهم مهتدون) *.
* (اتبعوا من لا يسألكم أجرا) * تكرير للتأكيد وللتوسل به إلى وصفهم بما يتضمن نفي المانع عن اتباعهم بعد الإشارة إلى تحقق المقتضى، وقوله سبحانه: * (وهم مهتدون) * أي ثابتون على الاهتداء بما هم عليه إلى خير الدنيا والآخرة جملة حالية فيها ما يؤكد كونهم لا يسألون الأجر ولا ما يتبعه من طلب جاه وعلو ولذا جعلت إيغالا حسنا نحو قول الخنساء: وإن صخرا لتأتم الهداة به * كأنه علم في رأسه نار والظاهر أن الرجل لم يقل ذلك إلا بعد سبق إيمانه، وروي أنه لما بلغته الدعوة جاء يسعى فسمع كلامهم وفهمه ثم قال لهم: أتطلبون أجرا على دعوتكم هذه؟ قالوا: لا فدعا عند ذلك قومه إلى اتباعهم والإيمان بهم قائلا * (يا قوم) * الخ، وللنحويين في مثل هذا التركيب وجهان؛ أحدهما: أن تكون * (من) * بدلا من * (المرسلين) * بإعادة العامل كما أعيد إذا كان حرف جر نحو قوله تعالى: * (لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم) * (الزخرف: 33) وإليه ذهب بعضهم وثانيهما: وإليه ذهب الجمهور أنه ليس ببدل فإنه مخصوص بما إذا كان العامل المعاد حرف جر أما إذا كان رافعا أو ناصبا فيسمون ذلك بالتتبيع لا بالبدل، واستدل بالآية على نقص من يأخذ أجرة على شيء من أفعال الشرع والبحث مستوفى في الفروع.
* (وما لى لا أعبد الذى فطرنى وإليه ترجعون) *.
* (ومالي لا أعبد الذي فطرني) * تلطف في إرشاد قومه بإيراده في معرض المناصحة لنفسه وإمحاض النصح حيث أراهم أنه اختار لهم ما يختار لنفسه والمراد تقريعهم على ترك عبادة خالقهم إلى عبادة غيره كما ينبىء عنه قوله: * (وإليه ترجعون) * مبالغة في تهديدهم بتخويفهم بالرجوع إلى شديد العقاب مواجهة وصريحا ولو قال: وإليه أرجع كان فيه تهديد بطريق التعريض، وعد التعبير بإليه ترجعون بعد التعبير بما لي لا أعبد من باب الالتفات لمكان التعريض بالمخاطبين في * (مالي لا أعبد) * الخ فيكون المعبر عنه في الأسلوبين واحدا بناء على ما ذهب إليه الخطب. والسعد التفتازاني من أن التعريض إما مجاز أو كناية وهو ههنا مجاز لامتناع
(٢٢٦)
مفاتيح البحث: الوسعة (1)، المرض (1)، الجواز (1)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 219 220 221 222 223 224 225 226 227 228 229 » »»