تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٢١ - الصفحة ١٣٠
وترككم التفكر فيه والتزود له بالكلية، وهذا تسريح بسبب العذاب من قبلهم فلا ينافي أن يكون له سبب آخر حقيقيا كان أو غيره، والتوبيخ به من بين الأسباب لظهوره وكونه صادرا منهم لا يسعهم إنكاره، والمراد بنسيانهم ذلك تركهم التفكر فيه والتزود له كما أشرنا إليه وهو بهذا المعنى اختياري يوبخ عليه ولا يكاد يصح إرادة المعنى الحقيقي وإن صح التوبيخ عليه باعتبار تعمد سببه من الانهماك في اتباع الشهوات، ومثله في كونه مجازا النسيان في قوله تعالى: * (إنا نسيناكم) * أي تركناكم في العذاب ترك المنسي بالمرة وجعل بعضهم هذا من باب المشاكلة ولم يعتبر كون الأول مجازا مانعا منها قيل: والقرينة على قصد المشاكلة فيه أنه قصد جزاؤهم من جنس العمل فهو على حد * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * (الشورى: 40)، وقوله تعالى: * (وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون) * تكرير للتأكيد والتشديد وتعيين المفعول المبهم للذوق والإشعار بأن سببه ليس مجرد ما ذكر من النسيان بل له أسباب أخر من فنون الكفر والمعاصي التي كانوا مستمرين عليها في الدنيا، ولما كان فيه زيادة على الأول حصلت به مغايرته له استحق العطف عليه ولم ينظم الكل في سلك واحد للتنبيه على استقلال كل من النسيان وما ذكر في استيجاب العذاب، وفي إبهام المذوق أولاف وبيانه ثانيا بتكرير الأمر وتوسيط الاستئناف المنبىء عن كمال السخط بينهما من الدلالة على غاية التشديد في الانتقام منهم ما لا يخفى.
وقوله تعالى:
* (إنما يؤمن بااي‍اتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون) *.
* (إنما يؤمن بآياتنا) * استئناف مسوق لتقرير عدم استحقاقهم لإيتاء الهدى والإشعار بعدم إيمانهم لو أوتوه بتعيين من يستحقه بطريق القصر كأنه قيل: إنكم لا تؤمنون بآياتنا الدالة على شؤوننا ولا تعملون بموجبها عملا صالحا ولو ارجعناكم إلى الدنيا وإنما يؤمن * (الذين إذا ذكروا بها) * أي وعظوا * (خروا سجدا) * أثر ذي أثير من غير تردد ولا تلعثم فضلا عن التسويف إلى معاينة ما نطقت به من الوعد والوعيد أي سقطوا ساجدين تواضعا لله تعالى وخشوعا وخوفا من عذابه عز وجل، قال أبو حيان: هذه السجدة من عزائم سجود القرآن، وقال ابن عباس: السجود هنا الركوع.
وروي عن ابن جريج. ومجاهد أن الآية نزلت بسبب قوم من المنافقين كانوا إذا أقيمت الصلاة خرجوا من المسجد فكان الركوع يقصد من هذا ويلزم على هذا أن تكون الآية مدنية ومن مذهب ابن عباس أن القارىء لآية السجدة يركع واستدل بقوله تعالى: * (وخر راكعا وأناب) * (ص: 24) اه‍.
ولا يخفى ما في الاستدلال من المقال * (وسبحوا بحمد ربهم) * أي ونزهوه تعالى عند ذلك عن كل ما لا يليق به سبحانه من الأمور التي من جملتها العجز عن البعث ملتبسين بحمده تعالى على نعمائه جل وعلا التي أجلها الهداية بإيتاء الآيات والتوفيق إلى الاهتداء بها فالحمد في مقابلة النعمة، والباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال، والتعرض لعنوان الربوبية بطريق الالتفات مع الإضافة إلى ضميرهم للإشعار بعلة التسبيح والتحميد بأنهم يفعلونهما بملاحظة ربوبيته تعالى لهم * (وهم لا يستكبرون) * عن الإيمان والطاعة كما يفعل من يصر مستكبرا كأن لم يسمع الآيات، والجملة عطف على الصلة أو حال من أحد ضميري * (خروا وسبحوا) * وجوز عطفها على أحد الفعلين، وقوله تعالى:
* (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقن‍اهم ينفقون) *.
* (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) * جملة مستأنفة لبيان بقية محاسنهم.
وجوز أن تكون حالية أو خبرا ثانيا للمبتدأ، والتجافي البعد والارتفاع؛ والجنوب جمع جنب الشقوق، وذكر
(١٣٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 125 126 127 128 129 130 131 132 133 134 135 ... » »»