في كفرهم بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه فقدم إلى أشيائهم وقصد إلى ما تحت أيديهم فأفسدها وجعلها شذر مذر ولم يترك لها من عين ولا أثر، واللفظ المستعار وقع فيه استعمال - قدم - بمعنى عمد وقصد لاشتهاره فيه وإن كان مجازا كما يشير إليه كلام الأساس، ويسمى القصد الموصل إلى المقصد قدوما لأنه مقدمته، وتضمن التمثيل تشبيه أعمالهم المحبطة بالهباء المنثور بدون استعارة، فلا إشكال على ما قيل، والكلام في ذلك طويل فليطلب من محله. وجعل بعضهم القدوم في حقه عز وجل عبارة عن حكمه، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي قدم ملائكتنا، وأسند ذلك إليه عز وجل لأنه عن أمره سبحانه، ونقل عن بعض السلف أنه لا يؤول في قوله تعالى: * (وجاء ربك) * (الفجر: 22) وقوله سبحانه: * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام) * (البقرة: 210) على ما هو عادتهم في الصفات المتشابهة، وقياس ذلك عدم التأويل في الآية، ولعله من هنا قيل: إن تأويل الزمخشري لها بناء على معتقده من إنكار الصفات، والقلب إلى التأويل فيها أميل.
وأنت إن لم تؤول القدوم فلا بد لك أن تؤول جعلها هباء منثورا بإظهار بطلانها بالكلية وإلغائها عن درجة الاعتبار بوجه من الوجوه، ولا يأبى ذلك السلف.
* (أصحابالجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا) * * (أصحاب الجنة) * هم المؤمنون المشار إليهم في قوله تعالى: * (قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون) * (الفرقان: 15) * (يومئذ) * أي يوم إذ يكون ما ذكر من القدوم إلى أعمالهم وجعلها هباء منثورا، أو من هذا وعدم التبشير، وقولهم: حجرا محجورا * (خير مستقرا) * المستقر المكان الذي يستقر فيه في أكثر الأوقات للتجالس والتحادث * (وأحسن مقيلا) * المقيل المكان الذي يؤوى إليه للاسترواح إلى الأزواج والتمتع بمغازلتهن، سمي بذلك لأن التمتع به يكون وقت القيلولة غالبا، وقيل: هو في الأصل مكان القيلولة - وهي النوم نصف النهار - ونقل من ذلك إلى مكان التمتع بالأزواج لأنه يشبهه في كون كل منهما محل خلوة واستراحة فهو استعارة، وقيل: أريد به مكان الاسترواح مطلقا استعمالا للمقيد في المطلق فهو مجاز مرسل، وإنما لم يبق على الأصل لما أنه لا نوم في الجنة أصلا.
وأخرج ابن المبارك في الزهد. وعبد بن حميد. وابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. والحاكم وصححه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء، ثم قرأ * (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا) * وقرى * (إن مقيلهم لإلى الجحيم) * وأخذ منه بعضهم أن المراد بالمستقر موضع الحساب، وبالمقيل محل الاستراحة بعد الفراغ منه، ومعنى يقيل هؤلاء يعني أصحاب الجنة ينقلون إليها وقت القيلولة، وقيل: المستقر والمقيل في المحشر قبل دخول الجنة، أو المستقر فيها والمقيل فيه.
فقد أخرج ابن جرير عن سعيد الصواف قال: بلغني أن يوم القيامة يقصر على المؤمن حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس، وإنهم ليقيلون في رياض حتى يفرغ الناس من الحساب، وذلك قوله تعالى: * (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا) * وفي وصفه بزيادة الحسن مع حصول الخيرية بعطفه على المستقر رمز إلى أن لهم ما يتزين به من حسن الصور وغيره من التحاسين. فإن حسن المنزل إن لم يكن باعتبار ما يرجع لصاحبه لم تتم المسرة به، والتفضيل المعتبر فيهما المسرة إما لإرادة الزيادة على الإطلاق، أي هم في أقصى ما يكون من خيرية المستقر وحسن المقيل. وإما بالإضافة إلى ما للكفرة المتنعمين في الدنيا