ويجوز أن يكون هذا إشارة إلى الرخصة في ترك بعض ما أمرهم سبحانه به حيث شق عليهم لقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " فانتفاء الحرج على هذا بعد ثبوته بالترخيص في الترك بمقتضى الشرع وعلى الأول انتفاء الحرج ابتداء، وقيل: عدم الحرج بأن جعل لهم من كل ذنب مخرجا بأن رخص لهم في المضايق وفتح عليهم باب التوبة وشرع لهم الكفارات في حقوقه والأروش والديات في حقوق العباد، ولا يخفى أن تعميمه للتوبة ونحوها خلاف الظاهر وإن روى ذلك من طريق ابن شهاب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما:
وفي " الحواشي الشهابية " أن الظاهر أن حق جهاده تعالى لما كان متعسرا ذيله بهذا ليبين أن المراد ما هو بحسب قدرتهم لا ما يليق به جل وعلا من كل الوجوه.
وذكر الجلال السيوطي أن هذه الآية أصل قاعدة المشقة تجلب التيسير وهو أوفق بالوجه الثاني فيها.
* (ملة أبيكم إبراهيم) * نصب على المصدرية بفعل دل عليه ما قبله من نفي الحرج بعد حذف مضاف أي وسع دينكم توسعة ملة أبيكم أو على الاختصاص بتقدير أعني بالدين ونحوه وإليهما ذهب الزمخشري، وقال الحوفي. وأبو البقاء: نصب على الإغراء بتقدير اتبعوا أو الزموا أو نحوه، وقال الفراء: نصب بنزع الخافض أي كملة أبيكم، والمراد بالملة إما يعم الأصول والفروع أو ما يخص الأصول فتأمل ولا تغفل، و * (إبراهيم) * منصوب بمقدر أيضا أو مجرور بالفتح على أنه بدل أو عطف بيان، وجعله عليه السلام أباهم لأنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كالأب لأمته من حيث أنه سبب لحياتهم الأبدية ووجودهم على الوجه المعتد به في الآخرة أو لأن أكثر العرب كانوا من ذريته عليه السلام فغلبوا على جميع أهل ملته صلى الله عليه وسلم * (هو) * أي الله تعالى كما روى عن ابن عباس. ومجاهد والضحاك. وقتادة. وسفيان، ويدل عليه ما سيأتي بعد في الآية وقراءة أبي رضي الله تعالى عنه * (الله) * * (سميكم المسلمين من قبل) * أي من قبل نزول القرآن وذلك في الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل * (وفي هذا) * أي في القرآن، والجملة مستأنفة، وقيل إنها كالبدل من قوله تعالى: * (هو اجتباكم) * ولذا لم تعطف، وعن ابن زيد. والحسن أن الضمير لإبراهيم عليه السلام واستظهره أبو حيان للقرب وتسميته إياهم بذلك من قبل في قوله: * (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) * (البقرة: 128) وقوله هذا سبب لتسميتهم بذلك في هذا لدخول أكثرهم في الذرية فجعل مسميا لهم فيه مجازا، ويلزم عليه الجمع بين الحقيقة والمجاز وفي جوازه خلاف مشهور، وقال أبو البقاء: المعنى على هذا وفي هذا بيان تسميته إياكم بهذا الاسم حيث حكى في القرآن مقالته، وقال ابن عطية: يقدر عليه وسميتكم في هذا المسلمين، ولا يخفى ما في كل ذلك من التكلف.
واستدل بالآية من قال: إن التسمية بالمسلمين مخصوص بهذه الأمة وفيه نظر.
* (ليكون الرسول) * يوم القيامة * (شهيدا عليكم) * أنه قد بلغكم، ويدل هذا القول منه تعالى على قبول شهادته عليه الصلاة والسلام لنفسه اعتمادا على عصمته ولعل هذا من خواصه صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم وإلا فالمعصوم يطالب في الدنيا بشاهدين إذا ادعى شيئا لنفسه كما يدل على ذلك قصة الفرس وشهادة خزيمة رضي الله تعالى عنه، وأيضا لو كان كل معصوم تقبل شهادته لنفسه في ذلك اليوم لما احتيج إلى شهادة هذه الأمة على الأمم حين يشهد عليهم أنبياؤهم