وأنت متى أخذت العناية بيدك بعد الاطلاع عليه سهل عليك رده ولم يهولك هزله وجده، والذي أختاره أنه صلى الله عليه وسلم إنما بعث رحمة لكل فرد فرد من العالمين ملائكتهم وانسهم وجنهم ولا فرق بين المؤمن والكافر من الانس والجن في ذلك، والرحمة متفاوتة ولبعض من العالمين المعلى والرقيب منها، وما يرى أنه ليس من الرحمة فهو إما منها في النظر الدقيق أو ليس مقصودا بالقصد الأولى كسائر الشرور الواقعة في العالم بناء على ما حقق في محله أن الشر ليس داخلا في قضاء الله تعالى بالذات، ومما هو ظاهر في عموم العالمين الكفار ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله ادع على المشركين قال: " إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة " ولعله يؤيد نصب * (رحمة) * في الآية على الحال كقوله صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة " إنما أنا رحمة مهداة " ولا يشين احتمال التعليل ما ذهب إليه الأشاعرة من عدم تعليل أفعاله عز وجل فإن الماتريدية وكذا الحنابلة ذهبوا إلى خلافه وردوه بما لا مزيد عليه، على أنه لا مانع من أن يقال فيه كما قيل في سائر ما ظاهره التعليل ووجود المانع هنا توهم محض فتدبر؛ ثم لا يخفى أن تعلق * (للعالمين) * برحمة هو الظاهر.
وقال ابن عطية: يحتمل أن يتعلق بأرسلناك، وفي البحر لا يجوز على المشهور أن يتعلق الجار بعد إلا بالفعل قبلها إلا إن كان العامل مفرغا له نحو ما مررت إلا بزيد.
* (قل إنمآ يوحى إلى أنمآ إلاهكم إلاه واحد فهل أنتم مسلمون) *.
* (قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد) * ذهب جماعة إلى أن في الآية حصرين بناء على أن أنما المفتوحة تفيد ذلك الكمكسورة، والأول لقصر الصفة على الموصوف والثاني لقصر الموصوف على الصفة فالثاني قصر فيه الله تعالى على الوحدانية والأول قصر فيه الوحي على الوحدانية، والمعنى ما يوحى إلى إلا اختصاص الله تعالى بالوحدانية.
واعترض بأنه كيف يقصر الوحي على الوحدانية وقد أوحى إليه صلى الله عليه وسلم أمور كثيرة غير ذلك كالتكاليف والقصص، وأجيب بوجهين. الأول أن معنى قصره عليه أنه الأصل الأصيل وما عداه راجع إليه أو غير منظور إليه في جنبه فهو قصر ادعائي، والثاني أنه قصر قلب بالنسبة إلى الشرك الصادر من الكفار، وكذا الكلام في القصر الثاني. وأنكر أبو حيان إفادة أنما المفتوحة الحصر لأنها مؤولة بمصدر واسم مفرد وليست كالمكسورة المؤولة بما وإلا وقال: لا نعلم خلافا في عدم إفادتها ذلك والخلاف إنما هو في إفادة إنما المكسورة إياه.
وأنت تعلم أن الزمخشري. وأكثر المفسرين ذهبوا إلى إفادتها ذلك، والحق مع الجماعة، ويؤيده هنا أنها بمعنى المسكورة لوقوعها بعد الوحي الذي هو في معنى القول ولأنها مقولة * (قل) * في الحقيقة ولا شك في إفادتها التأكيد فإذا اقتضى المقام القصر كما فيما نحن فيه انضم إلى التأكيد لكنه ليس بالوضع كما في المكسورة فقد جاء ما لا يحتمله كقوله تعالى: * (وظن داود أنما فتناه) * (ص: 24) ولذا فسره الزمخشري بقوله ابتليناه لا محالة مع تصريحه بالحصر هنا، نعم في توجيه القصر هنا بما سمعت من كونه قصر الله تعالى على الوحدانية ما سمعته في آخر سورة الكهف فتذكر.
وجوز في - ما - في " إنما يوحى " أن تكون موصولة وهو خلاف الظاهر. وتجويزه فيما بعد بعيد جدا موجب لتكلف لا يخفى * (فهل أنتم مسلمون) * أي منقادون لما يوحى إلي من التوحيد، وهو استفهام يتضمن الأمر بالانقياد، وبعضهم فسر الإسلام بلازمه وهو إخلاص العبادة له تعالى وما أشرنا إليه أولى.