تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٦ - الصفحة ١٧٨
مما اقتضته الطبيعة البشرية فإن البشر بمقتضى طبعه يخاف عند مشاهدة مثل ذلك وهو لا ينافي جلالة القدر.
وقيل: إنما خاف عليه السلام لأنه رأى أمرا هائلا صدر من الله عز وجل بلا واسطة ولم يقف على حقيقة أمره وليس ذلك كنار إبراهيم عليه السلام لأنها صدرت على يد عدو الله تعالى وكانت حقيقة أمرها كنار على علم فلذلك لم يخف عليه السلام منها كما خاف موسى عليه السلام من الحية، وقيل: إنما خاف لأنه عرف ما لقي من ذلك حيث كان له مدخل في خروج أبيه من الجنة، وإنما عطف النهي على الأمر للاشعار بأن عدم المنهى عنه مقصود لذاته لا لتحقيق المأمور به فقط، وقوله تعالى: * (سنعيدها) * أي بعد الأخذ * (سيرتها) * أي حالتها * (الأولى) * التي هي العصوية استئناف مسوق لتعليل الامتثال بالأمر والنهي فإن إعادتها إلى ما كانت عليه من موجبات أخذها وعدم الخوف منها، ودعوى أن فيه مع ذلك عدة كريمة بإظهار معجزة أخرى على يده عليه السلام وإيذانا بكونها مسخرة له عليه السلام ليكون على طمأنينة من أمره ولا تعتريه شائبة تزلزل عند محاجة فرعون لا تخلو عن خفاء، وذكر بعضهم أن حكمة انقلابها حية وأمره بأخذها ونهيه عن الخوف تأنيسه فيما يعلم سبحانه أنه سيقع منه مع فرعون، ولعل هذا مأخذ تلك الدعوى.
قيل: بلغ عليه السلام عند هذا الخطاب من الثقة وعدم الخوف إلى حيث كان يدخل يده في فمها ويأخذ بلحييها، وفي رواية الإمام أحمد. وغيره عن وهب أنه لما أمره الله تعالى بأخذها أدنى طرف المدرعة على يده وكانت عليه مدرعة من صوف قد خلها بخلال من عيدان فقال له مالك: أرأيت يا موسى لو أذن الله تعالى بما تحاذر أكانت المدرعة تغني عنك شيئا؟ قال: لا ولكني ضعيف ومن ضعف خلقت فكشف عن يده ثم وضعها على فم الحية حتى سمع حس الاضراس والانياب ثم قبض فإذا هي عصاه التي عهدها وإذا يده في موضعها الذي كان يضعها فيه إذا توكأ بين الشعبيتين، والرواية الأولى أوفق بمنصبه الجليل عليه السلام. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه عليه السلام نودي المرة الأولى يا موسى خذها فلم يأخذها ثم نودي الثانية * (خذها ولا تخف) * فلم يأخذها ثم نودي الثالثة * (إنك من الآمنين) * فأخذها، وذكر مكي في تفسيره أنه قيل له في المرة الثالثة: * (سنعيدها سيرتها الأولى) *، ولا يخفى أن ما ذكر بعيد عن منصب النبوة فلعل الخبر غير صحيح.
والسيرة فعلة من السير تقال للهيئة والحالة الواقعة فيه ثم جردت لمطلق الهيئة والحالة التي يكون عليها الشيء، ومن ذلك استعمالها في المذهب والطريقة في قولهم: سيرة السلف وقول الشاعر: فلا تغضبن من سيرة أنت سرتها * فأول راض سيرة من يسيرها واختلف في توجيه نصبها في الآية فقيل: إنها منصوبة بنزع الخافض والأصل إلى سيرتها أو لسيرتها وهو كثير وإن قالوا: إنه ليس بمقيس، وهذا ظاهر قول الحوفي: إنها مفعول ثان لسنعيدها على حذف الجار نحو * (واختار موسى قومه) * (الأعراف: 551) وإليه ذهب ابن مالك وارتضاه ابن هشام، وجوز الزمخشري أن يكون أعاد منقولا من عاده بمعنى عاد إليه، ومنه قول زهير: فصرم حبلها إذ صرمته وعادك أن تلاقيها عداء فيتعدى إلى مفعولين، والظاهر أنه غير التوجيه الأول لاعتبار النقل فيه والخافض يحذف من أعاد من غير نظر إلى ثلاثيه؛ وتعدى عاد بنفسه مما صح به النقل، فقد نقل الطيبي عن الأصمعي أن عادك في البيت متعد بمعنى صرفك، وكذا نقل الفاضل اليمنى. وفي المغرب العود الصيرورة ابتداء وثانيا ويتعدى بنفسه وبإلى وعلى وفي واللام.
(١٧٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 173 174 175 176 177 178 179 180 181 182 183 ... » »»