تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٦ - الصفحة ١٧٦
ونقل الأهوازي في كتاب الإقناع عن الزهري. وشيبة أنهما قرأا * (مارب) * بغير همز وكأنه يعني بغير همز محقق، ومحصله أنهما سهلا الهمزة بين بين، وقد روى الإمام أحمد. وغيره عن وهب في تعيين هذه المآب أنه كان لها شعبتان ومحجن تحتهما فإذا طال الغصن حناه بالمحجن وإذا أراد كسره لواه بالشعبتين وكان إذا شاء عليه السلام ألقاها على عاتقه فعلق بها قوسه وكنانته ومخلاته وثوبه وزادا إن كان معه وكان إذا رتع في البرية حيث لا ظل له ركزها ثم عرض بالزندين الزند الأعلى والزند السفلى على شعبتيها وألقى فوقها كساءه فاستظل بها ما كان مرتعا، وكان إذا ورد ماء يقصر عنه رشاؤه وصل بها، وكان يقاتل بها السباع عن غنمه.
وذكر بعضهم أنه كان عليه السلام يستقي بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلوا وتكونان شمعتين في الليل وإذا ظهر عدو حاربت عنه وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت وكان يحمل عليها زاده وسقاءه فجعلت تماشيه ويركزها فينبع الماء وإذا رفعها نضب وكانت تقيه الهوام وكانت تحدثه وتؤنسه؛ ونقل الطبرسي كثيرا مما ذكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
والظاهر أن ذلك مما كان فيها بعد، وتكلف بعضهم للقول بأنه مما كان قبل. ويحتمل إن صح خبر في ذلك ولا أراه يصح فيه شيء، وكأن المراد من سؤاله تعالى إياه عليه السلام أن يعدد المرافق الكثيرة التي علقها بالعصا ويستكثرها ويستعظمها ثم يريه تعالى عقب ذلك الآية العظيمة كأنه جل وعلا يقول: أين أنت عن هذه المنفعة العظمى والمأربة الكبرى المنسية عندها كل منفعة ومأربة كنت تعتد بها وتحتفل بشأنها فما طالبة للوصف أو يقدر المنفعة بعدها. واختيار ما يدل على البعد في اسم الإشارة للإشارة إلى التعظيم وكذا في النداء إيماء إليه والتعداد في الجواب لأجله؛ و * (مآرب أخرى) * تتميم للاستعظام بأنها أكثر من أن تحصى، وذكر العصا في الجواب ليجري عليها النعوت المادحة وفيه من تعظيم شأنها ما ليس في ترك ذكرها، ويندفع بهذا ما أورد من أنه يلزم على هذا الوجه استدراك * (هي عصاي) * إذ لا دخل له في تعداد المنافع.
ويجوز أن يكون المراد إظهاره عليه السلام حقارتها ليريه عز وجل عظيم ما يخترعه في الخشبة اليابسة مما يدل على باهر قدرته سبحانه كما هو شأن من أراد أن يظهر من الشيء الحقير شيئا عظيما فإنه يعرضه على الحاضرين ويقول: ما هذا؟ فيقولون هو الشيء الفلاني ويصفونه بما يبعد عما يريد إظهاره منه ثم يظهر ذلك فما طالبة للجنس و * (تلك) * للتحقير والتعداد في الجواب لأجله * (ومآرب أخرى) * تتميم لذلك أيضا بأن المسكوت عنه من جنس المنطوق فكأنه عليه السلام قال: هي خشبة يابسة لا تنفع إلا منافع سائر الخشبات ولذلك ذكر عليه السلام العصا وأجرى عليها ما أجرى، وقيل: إنه عليه السلام لما رأى من آيات ربه ما رأى غلبت عليه الدهشة والهيبة فسأله سبحانه وتكلم معه إزالة لتلك الهيبة والدهشة فما طالبة إما للوصف أو للجنس وتكرير النداء لزيادة التأنيس، ولعل اختيار ما يدل على البعد في اسم الإشارة لتنزيل العصا منزلة البعيد لغفلته عليه السلام عنها بما غلب عليه من ذلك، والإجمال في قوله: * (ولي فيها مآرب أخرى) * يحتمل أن يكون رجاء أن يسأله سبحانه عن تلك المآرب فيسمع كلامه عز وجل مرة أخرى. وتطول المكاملة وتزداد اللذاذة التي لأجلها أطنب أولا، وما ألذ مكالمة المحبوب، ومن هنا قيل: وأملي حديثا يستطاب فليتني * أطلت ذنوبا كي يطول عتابه
(١٧٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 171 172 173 174 175 176 177 178 179 180 181 ... » »»