تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٣ - الصفحة ٢٤٩
وهذا أحد أجوبة يجاب بها أهل النار على ما في بعض الآثار. فقد ذكر البيهقي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله تعالى في أربع منها فإذا كانت الخامسة لم يتكلموا بعدها أبدا، يقولون: * (ربنا أمتنا اثنتين واحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل) * (غافر: 11) فيجيبهم الله عز وجل * (ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم وأن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير) * (غافر: 12) ثم يقولون: ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون) * (السجدة: 12) فيجيبهم جل شأنه * (فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا) * (السجدة: 14) الآية، ثم يقولون: * (ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل) * (إبراهيم: 44) فيجيبهم تبارك وتعالى: * (أو لم تكونوا أقسمتم من قبل) * (إبراهيم: 44) الآية، ثم يقولون: * (ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل) * فيجيبهم جل جلاله: * (أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير) * فيقولون: * (ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين) * فيجيبهم جل وعلا: * (اخسأوا فيها ولا تكلمون) * فلا يتكلمون بعدها أن هو إلا زفير وشهيق، وعند ذلك انقطع رجاؤهم وأقبل بعضهم ينبح في وجه بعض وأطبقت عليهم جهنم، اللهم إنا نعوذ بك من غضبك ونلوذ بكنفك من عذابك ونسألك التوفيق للعمل الصالح في يومنا لغدنا والتقرب إليك بما يرضيك قبل أن يخرج الأمر من يدنا.
* (وسكنتم فى مس‍اكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال) * .
* (وسكنتم) * من السكنى بمعنى التبوء والاستيطان وهو بهذا المعنى مما يتعدى بنفسه تقول سكنت الدار واستوطنتها إلا أنه عدي هنا بفي حيث قيل: * (في مساكن الذين ظلموا أنفسهم) * جريا على أصل معناه فإنه منقول عن سكن بمعنى قر وثبت وحق ذلك التعدية بفي، وجوز أن يكون المعنى وقررتم في مساكنهم مطمئنين سائرين سيرتهم في الظلم بالكفر والمعاصي غير محدثين أنفسكم بما قلوا بسبب ما اجترحوا من الموبقات، وفي إيقاع الظلم على أنفسهم بعد إطلاقه فيما سلف إيذان بأن غائلة الظلم آيلة إلى صاحبه، والمراد بهم - كما قال بعض المحققين - إما جميع من تقدم من الأمم المهلكة على تقدير اختصاص الاستمهال والخطاب السابق بالمنذرين، وإما أوائلهم من قوم نوح وهود على تقدير عمومها للكل، وهذا الخطاب وما يتلوه باعتبار حال أواخرهم.
* (وتبين لكم) * أي ظهر لكم على أتم وجه بمعاينة الآثار وتواتر الأخبار * (كيف فعلنا بهم) * من الإهلاك والعقوبة بما فعلوا من الظلم والفساد، وفاعل * (تبين) * مضمر يعود على ما دل عليه الكلام أي فعلنا العجب بهم أو حالهم أو خبرهم أو نحو ذلك، وكيف في محل نصب - بفعلنا - وجملة الاستفهام ليست معمولة - لتبين - لأنه لا يعلق، وقيل: الجملة فاعل * (تبين) * بناء على جواز كونه جملة وهو قول ضعيف للكوفيين.
وذهب أبو حيان إلى ما ذهب إليه الجماعة ثم ذكر أنه لا يجوز أن يكون الفاعل * (كيف) * لأنه لا يعمل فيها ما قبلها إلا فيما شذ من قولهم: على كيف تبيع الأحمرين وقولهم: انظر إلى كيف تصنع. وقرأ السلمي فيما حكاه عنه أبو عمرو الداني * (ونبين) * بنون العظمة ورفع الفعل، وحكى ذلك أضا " صاحب اللوامح " عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وذلك على إضمار مبتدأ أي ونحن نبين والجملة حالية، وقال المهدوي عن السلمي أنه قرأ بنون العظمة إلا أنه جزم الفعل عطفا على تكونوا أي أو لم نبين لكم * (وضربنا لكم) * أي في القرآن العظيم على تقدير اختصاص الخطاب بالمنذرين أو على ألسنة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على تقدير عمومه لجميع الظالمين.
(٢٤٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 244 245 246 247 248 249 250 251 252 253 254 ... » »»