البلايا في هذه المدة المتطاولة، قيل: وهذا ناظر إلى ما سبق من قوله سبحانه: * (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك) * (هود: 12) الخ * (إن العاقبة) * بالظفر في الدنيا وبالفوز بالآخرة * (للمتقين) * كما سمعت ذلك في نوح عليه السلام وقومه، قيل: وهو تعليل للأمر بالصبر وتسلية له صلى الله عليه وسلم، والمراد بالتقوى الدرجة الأولى منها، وجوز أن يراد بها الدرجة الثالثة وهي بذلك المعنى منطوية على الصبر فكأنه قيل: فاصبر فإن العاقبة للصابرين، وقيل: الآية فذلكة لما تقدم وبيان للحكمة في إيحاء ذلك من إرشاده صلى الله عليه وسلم وتهديد قومه المكذبين له والله تعالى أعلم.
ومن باب الإشارة في الآيات: * (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك) * الخ لما كان مقتضى الطباع البشرية عدم نشاط المتكلم إذا لم يجد محلا قابلا لكلامه وضيق صدره من ذلك هيج جل شأنه نشاط نبيه صلى الله عليه وسلم بما أنزل عليه من هذه الآية الكريمة، وقال سبحانه: * (إنما أنت نذير) * ولا يخلو الإنذار عن إحدى فائدتين: رفع الحجاب عمن وفق وإلزام الحجة لمن خذل * (والله على كل شيء وكيل) * (هود: 12) فكل الهداية إليه * (من كان يريد) * بعمله الذي هو بظاهره من أعمال الآخرة * (الحياة الدنيا) * كالجاه والمدح * (نوف إليهم أعمالهم) * أي جزاءها فيها إن شئنا * (وهم فيها لا يبخسون) * (هود: 15) أي لا ينقصون شيئا منها * (أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار) * لتعذب قلوبهم بالحجب الدنيوية * (وحبط ما صنعوا فيها) * (هود: 16) من أعمال البر فلم ينتفعوا بها، وجاء " إنما الأعمال بالنيات ولكل امرىء ما نوى " الحديث * (أفمن كان على بينة من ربه) * أي يقين برهاني عقلي أو وجداني كشفي * (ويتلوه شاهد منه) * وهو القرآن المصدق لذلك، ومن هنا تؤيد الأدلة العقلية بالآيات النقلية القرآنية. ويحكم بكون الكشف صحيحا إذا شهدت له ووافقته، ولذا قالوا: كل كشف خالف ما جاء عن الله تعالى ليس بمعتبر * (ومن قبله كتاب موسى) * أي يتبع البرهان من قبل هذا الكتاب كتاب موسى عليه السلام في حالة كونه * (إماما) * يؤتم به في تحقيق المطالب * (ورحمة) * (هود: 17) لمن يهتدي به، وهذا وجه في الآية ذكره بعضهم، وقد قدمنا ما فيها من الاحتمالات؛ وقد ذكروا أن المراد بيان بعدما بين مرتبتي من يريد الحياة الدنيا ومن هو على بينة من ربه.
وللصوفية قدست أسرارهم عبارات شتى في البينة فقال رويم: هي الإشراف عن القلوب والحكم على الغيوب، وقال سيد الطائفة: هي حقيقة يؤيدها ظاهر العلم، وقيل: غير ذلك، وعن أبي بكر بن طاهر أن من كان على بينة من ربه كانت جوارحه وقفا على الطاعات والموافقات ولسانه مشغولا بالذكر ونشر الآلاء والنعماء وقلبه منورا بأنوار التوفيق وضياء التحقيق وسره وروحه مشاهدين للحق في جميع الأوقات وكان عالما بما يبدو من مكنون الغيوب ورؤيته يقين لا شك فيه وحكمه على الخلق كحكم الحق لا ينطق إلا بالحق ولا يرى إلا الحق لأنه مستغرق به فأنى يرى سواه * (ومن أظلم ممن فارتى على الله كذبا) * (هود: 19) الخ جعله بعضهم إشارة إلى المثبتين لغيره سبحانه وجودا وهم أهل الكثرة والحجاب، وفسر الإشهاد بالموحدين الذين لا يشهدون في الدار غيره سبحانه ديارا.
ومن الناس من عكس الأمر وجعلها ردا على أهل الوحدة القائلين: إن كل ما شاهدته بعينك أو تصورته بفكرك فهو الله سبحانه بمعنى كفر النصارى إيمان بالنسبة إليه وحاشا أهل الله تعالى من القول به على ما يشعر به ظاهره، ومنهم من جعلها مشيرة إلى حال من يزعم أنه ولي الله ويتزيا بزي السادات ويتكلم بكلماتهم وهو في الباطن أفسق من فرد وأجهل من حمار تومه * (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع) * قيل: * (البصير) * من عاين ما يراد به وما يجري له وعليه في جميع أوقاته * (والسميع) * من يسمع ما يخاطب به من تقريع وتأديب وحث وندب لا يغفل عن الخطاب في حال من الأحوال، وقيل: * (البصير) * الناظر إلى الأشياء بعين الحق فلا ينكر شيئا ولا يتعجب