وإظهارا للرغبة والنشاط فيها وتبركا بذكر ما لقنه الله تعالى وهو أبلغ من أن يقول: أتوب إليك أن أسألك لما فيه من الدلالة على كون ذلك أمرا هائلا محذورا لا محيص منه إلا بالعوذ بالله تعالى وأن قدرته عليه السلام قاصرة عن النجاة من المكاره إلا بذلك كما في إرشاد العقل السليم، واحتمال أن يكون فيه رد وإنكار نظير ما في (البقرة: 67) من قول موسى عليه السلام * (أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) * مما لا يكاد يمر بفكر أحد من الجاهلين.
هذا وفي مصحف ابن مسعود * (إنه عمل غير صالح) * أن تسألني، ورجح به كون ضمير * (إنه) * في القراءة المتواترة للنداء المتضمن للسؤال، وقرأ ابن كثير * (فلا تسألن) * بفتح اللام وتشديد النون مفتوحة وهي قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وكذا قرأ نافع. وابن عامر غير أنهما كسرا النون على أن أصله تسألنني فحذفت نون الوقاية لاجتماع النونات وكسرت الشديدة للياء ثم حذفت الياء اكتفاءا بالكسرة، وقرأ أبو جعفر. وشيبة. وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما كذلك إلا أنهم أثبتوا الياء بعد النون وأمره ظاهر، وقرأ الحسن. وابن أبي مليكة * (تسألني) * من غير همز من سال يسال فهما يساولان، وهي لغة سائرة، وقرأ باقي السبعة بالهمز وإسكان اللام وكسر النون وتخفيفها. وأثبت الياء في الوصل ورش. وأبو عمرو، وحذفها الباقون * (وإلا تغفر لي) * ما صدر عني من السؤال المذكور * (وترحمني) * بقبول توبتي * (أكن من الخاسرين) * أعمالا بسبب ذلك وتأخير ذكر هذا عن حكاية الأمر الوارد على الأرض والسماء وما يتلوه مع أن حقه أن يذكر عقيب قوله سبحانه: * (فكان من المغرقين) * حسبما وقع في الخارج على ما علمت من أن النداء كان لطلب الإنجاء قبل العلم بالهلاك قيل: ليكون على أسلوب قصة البقرة في سورتها دلالة على استقلال هذا المعنى بالغرض لما فيه من النكت من جعل قرابة الدين غامرة لقرابة النسب وأن لا يقدم في الأمور الدينية الأصولية إلا بعد اليقين، وتعقب بالفرق بين ما هنا وما هناك عند من كان ذا قلب، وما ذكر من جعل قرابة الدين غامرة لقرابة النسب الخ لا يفوت على تقديرسوق الكلام على ترتيب الوقوع أيضا.
واختار بعض المحققين أن ذلك لأن ذكر هذا النداء كما ترى مستدع لما مر من الجواب المستدعي لذكر توبته عليه السلام المؤدي إلى ذكر قبولها في ضمن الأمر بهبوطه عليه السلام من الفلك بالسلام والبركات الفائضة عليه وعلى المؤمنين حسبما يجيء إن شاء الله تعالى، ولا ريب أن هذه المعاني آخذ بعضها بحجرة بعض بحيث لا تكاد تفرق الآيات الكريمة المنطوية عليها بعضها من بعض وأن ذلك إنما يتم بتمام القصة، وذلك إنما يكون بتمام الطوفان فلا جرم اقتضى الحال ذكر تمامها قبل هذا النداء وهو إنما يكون عند ذكر كون كنعان من المغرقين، ولهذه النكتة ازداد حسن موقع الإيجاز البليغ، وفيه فائدة أخرى هي التصريح بهلاكه من أول الأمر ولو ذكر النداء بعد * (فكان من المغرقين) * لربما توهم من أول الأمر إلى أن يرد أنه ليس من أهلك الخ أنه ينجو بدعائه فنص على هلاكه، ثم ذكر القصة على وجه أفحم مصاقع البلغاء، ثم تعرض لما وقع في تضاعيف ذلك مما جرى بين نوح عليه السلام ورب العزة جلت حكمته وعلت كلمته، ثم ذكر بعد توبته عليه السلام قبولها [بم بقوله عز وجل:
* (قيل يانوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم) * * (قيل يا نوح اهبط) * الخ وهو من الحسن بمكان، وبنى الفعل لما لم يسم فاعله لظهور أن القائل هو الله تعالى، وقيل: القائل الملائكة عليهم السلام والهبوط النزول قيل: أي أنزل من الفلك، وقيل: من الجبل إلى الأرض وذلك أنه روي أن السفينة استوت على الجودى في عاشر ذي الحجة فأقام بمن معه هناك