تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٢ - الصفحة ٢٦
تقييد قوله عز وجل: * (ليس لهم في الآخرة إلا النار) * (هود: 16) بأن ليس لهم بسبب أعمالهم الريائية إلا ذلك وهو خلاف الظاهر، والسياق يقتضي أنها في الكفرة مطلقا وبرهم كما قلنا، ومن هنا اشتهر أن الكافر يعجل له ثواب أعماله في الدنيا بتوسعة الرزق وصحة البدن وكثرة الولد ونحو ذلك وليس لهم في الآخرة من نصيب لكن ذهب جماعة إلى أنه يخفف بها عنه عذاب الآخرة، ويشهد له قصة أبي طالب، وذهب آخرون إلى أن ما يتوقف على النية من الأعمال لا ينتفع الكافر به في الآخرة أصلا لفقدان شرطه إذ لم يكن من أهل النية لكفره، وما لا ينتفع به ويخفف به عذابه، وبذلك يجمع بين الظواهر المقتضى بعضها للانتفاع في الجملة وبعضها لعدمه أصلا فتدبر.
ووجه ارتباط هذه الآية بما قبلها على ما في " مجمع البيان " أنه سبحانه لما قال: * (فهل أنتم مسلمون) *؟ فكأن قائلا قال: إن أظهرنا الإسلام لسلامة النفس والمال يكون ماذا؟ فقيل: * (من كان يريد الحياة الدنيا) * (هود: 15) الخ، أو يقال: إن فيما قبل ما يتضمن إقناط الكفرة من أن يجيرهم آلهتهم من بأس الله عز سلطانه كما تقدم، وذكره بعض المحققين فلا يبعد أن يكون سماعهم ذلك سببا لعزمهم على إظهار الإسلام، أو فعل بعض الأعمال الصالحة ظنا منهم أن ذلك مما يجيرهم وينفعهم فشرح لهم حكم مثل ذلك بقوله سبحانه: * (من كان يريد) * الخ لكن أنت تعلم أن هذا يحتاج إلى ادعاء أن ذلك العزم من باب الاحتياط، وفي " البحر " في بيان المناسبة أنه سبحانه لما ذكر شيئا من أحوال الكفار في القرآن ذكر شيئا من أحوالهم الدنيوية وما يؤولون إليه في الآخرة، وأبو السعود بين ذلك على وجه يقوي به ما ادعاه من أنسبية كون الخطاب فيما سلف له عليه الصلاة والسلام والمؤمنين، فقال: والذي يقتضيه جزالة النظم الكريم أن المراد مطلق الكفرة بحيث يندرج فيهم القادحون في القرآن العظيم اندراجا أوليا فإنه عز وجل لما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن يزدادوا علما ويقينا بأن القرآن منزل بعلم الله سبحانه وبأن لا قدرة لغيره سبحانه على شيء أصلا وهيجهم على الثبات على الإسلام والرسوخ فيه عند ظهور عجز الكفرة وما يدعون من دون الله تعالى عن المعارضة وتبين أنهم ليسوا على شيء أصلا اقتضى الحال أن يتعرض لبعض شؤونهم الموهمة لكونهم على شيء في الجملة من نيلهم الحظوظ العاجلة واستوائهم على المطالب الدنيوية، وبيان أن ذلك بمعزل عن الدلالة عليه، ولقد بين ذلك أي بيان انتهى، ولا يخفى أنه يمكن أن يقرر هذا على وجه لا يحتاج فيه إلى توسط حديث جعل الخطاب السابق له صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فليفهم، واستدل في الأحكام بالآية على أن ما سبيله أن لا يفعل إلا على وجه القربة لا يجوز أخذ الأجرة عليه لأن الأجرة من حظوظ الدنيا فمن أخذ عليه الأجرة خرج من أن يكون قربة بمقتضى الكتاب والسنة، وادعى الكيا أنها مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات " وتدل على أن من صام في رمضان لا عن رمضان لا يقع عن رمضان، وعلى أن من توضأ للتبرد أو التنظف لا يصح وضوؤه، وفي ذلك خلاف مبسوط بما له وعليه في محله.
* (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أول‍ائك يؤمنون به ومن يكفر به من الاحزاب فالنار موعده فلا تك فى مرية منه إنه الحق من ربك ول‍اكن أكثر الناس لا يؤمنون) * * (أفمن كان على بينة من ربه) * تدل على الحق والصواب فيما يأتيه ويذره، ويدخل في ذلك الإسلام دخولا أوليا، واقتصر عليه بعضهم بناءا على أنه المناسب لما بعد، وأصل - البينة - كما قيل: الدلالة الواضحة عقلية كانت أو محسوسة، وتطلق على الدليل مطلقا، وهاؤها للمبالغة، أو النقل، وهي وإن قيل: إنها من بان بمعنى تبين واتضح لكنه اعتبر فيها دلالة الغير والبيان له، وأخذها بعضهم من صيغة المبالغة، والتنوين فيها
(٢٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 ... » »»