ووصفهم بالكفر لذمهم والتسجيل عليهم بذلك من أول الأمر لا لأن بعض أشرافهم ليسوا بكفرة.
* (ما نراك إلا بشرا مثلنا) * أرادوا ما أنت إلا بشر مثلنا ليس فيك مزية تخصك من بيننا بالنبوة ولو كان ذلك لرأيناه لا أن ذلك محتمل لكن لا نراه، وكذا الحال في * (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي) * فالفعلان من رؤية العين - وبشرا. واتبعك - حالان من المفعول بتقدير قد في الثاني أو بدونه على الخلاف؛ ويجوز أن يكونا من رؤية القلب وهو الظاهر فهما حينئذ المفعول الثاني، وتعلق الرأي في الأول بالمثلية لا البشرية فقط، ويفهم من الكشاف أن في الآية وجهين: الأول أنهم أرادوا التعريض بأنهم أحق بالنبوة كأنهم قالوا: هب أنك مثلنا في الفضيلة والمزية من كثرة المال والجاه فلم اختصصت بالنبوة من دوننا، والثاني أنهم أرادوا أنه ينبغي أن يكون ملكا لا بشرا، وتعقب هذا بأن فيه اعتزالا خفيا، وقد بينه العلامة الطيبي، ونوزع في ذلك ففي الكشف أن قولهم * (مثلنا) * علية لتحقيق البشرية، وقولهم * (وما نراك اتبعك) * الخ استدلال بأنهم ضعفاء العقول لا تمييز لهم، فجوزوا أن يكون الرسول بشرا وقولهم الآتي * (وما نرى لكم علينا من فضل) * تسجيل بأن دعوى النبوة باطلة - لإدخاله عليه السلام والأراذل - في سلك على أسلوب يدل أنهم أنقص البشر فضلا عن الارتقاء، وليسس في هذا الكلام اعتزال خفي ولا المقام عنه أبى انتهى.
وفي الانتصاف يجوز أن يكونوا قد أرادوا الوجهين جميعا كأنهم قالوا: من حق الرسول أن يكون ملكا لا بشرا وأنت بشر، وإن جاز أن يكون الرسول بشرا فنحن أحق منك بالرسالة، ويشهد لإرادتهم الأول قوله في الجواب * (ولا أقول إني ملك) * (هود: 31) ويشهد لأرادتهم القانية * (وما نرى لكم) * الخ، والظاهر أن مقصودهم ليس إلا إثبات أنه عليه السلام مثلهم وليس فيه مزية يترتب عليها النبوة ووجوب الإطاعة والاتباع، ولعل قولهم * (وما نراك اتبعك) * الخ جاب عما يرد عليهم من أنه عليه السلام ليس مثلهم حيث اتبعه من وفق لاتباعه، فكأنهم قالوا: إنه لم يميزك اتباع من اتبعك فيوجب علينا اتباعك لأنه لم يتبعك * (إلا الذين هم أراذلنا) * أي أخساؤنا وأدانينا، وهو جمع أرذل والأغلب الاقيس في مثله إذا أريد جمعه أن يجمع جمع سلامة كالأخسرون جمع أخسر لكنه كسر هنا لأنه صار بالغلبة جاريا مجرى الاسم، ولذا جعل في القاموس الرذل والأرذل بمعنى وهو الخسيس الدنيء، ومعنى جريانه مجرى الاسم أنه لا يكاد يذكر الموصوف معه كالأبطح والأبرق.
وجوز أن يكون جمع أرذل جمع رذل فهو جمع الجمع ونظير ذلك أكالب. وأكلب. وكلب وكونه جمع رذل مخالف للقياس وإنما لم يقولوا: إلا أراذبنا مبالغة في استرذالهم وكأنهم إنما استرطلوهم لفقرهم لأنهم لما لم يعلموا إلا ظاهرا من الحياة الدنيا كان الأشرف عندهم الأكير منها حظا والأرذل من حرمها ولم يفقهوا أن الدنيا بحذافيرها لا تعدل عند الله تعالى جناح بعوضة وأن النعيم إنما هو نعيم الآخرة. والأشرف من فاز به والأرذل من حرمه، ومثل هؤلاء في الجهل كثير من أهل هذا الزمان عافانا الله سبحانه مما هم فيه من الخذلان والحرمان وكان القوم على ما في بعض الأخبار حاكة وأساكفة وحجامين وأرادوا بقولهم * (بادي الرأي) * ظاهره وهو ما يكون من غير تعمق، والرأي من رؤية الفكر والتأمل، وقيل: من رؤية العين وليس بذاك.
وجوز أن يكون البادي بمعنى الأول، وهو على الأول من البدو، وعلى الثاني من البدء، والياء مبدلة.