تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٨ - الصفحة ٨٦
منبئا عن منفعة السامع تبقى مترقبة لورود المؤخر فيتمكن فيها عند الورود فضل تمكن، وأما تقديم اللام على في فلما أنه المنبىء عما ذكر من المنفعة والاعتناء بشأنه أتم والمسارعة إلى ذكره أهم، وقيل: إن الجعل متعد إلى مفعولين ثانيهما أحد الظرفين على أنه مستقر قدم على الأول، والظرف الآخر إما لغو متعلق بالجعل أو بالمحذوف الواقع حالا من المفعول الأول كما مر، واعترض بأنه لا فائدة يعتد بها في الأخبار بجعل المعايش حاصلة لهم أو حاصلة في الأرض.
* (قليلا ما تشكرون) * تلك النعمة الجسيمة، وهو تذييل مسوق لبيان سوء (حال) المخاطبين وتحذيرهم قال الطيبي: والتذييل بذلك لأن الشكر مناسب لتمكينهم في البلاد والتصرف فيها كما أن التذكر في الجملة السابقة موافق للتمييز بين اتباع دين الحق ودين الباطل، وبقية الكلام في هذه الجملة على طرز ما مر في نظيرها فتذكر.
* (ولقد خلقن‍اكم ثم صورن‍اكم ثم قلنا للمل‍ائكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الس‍اجدين) *.
* (ولقد خلقناكم ثم صورناكم) * تذكير لنعمة أخرى، وتأخيره عن تذكير ما وقع (بعده) من نعمة التمكن في الأرض إما لأنها فائضة على المخاطبين بالذات وهذه بالواسطة، وإما للإيذان بأن كلا منهما نعمة مستقلة، والمراد خلق آدم عليه السلام وتصويره كما يقتضيه ظاهر العطف الآتي لكن لما كان مبتدأ للمخاطبين جعل خلقه خلقا بهم ونزل منزلته فالتجوز على هذا في ضمير الجمع بجعل آدم عليه السلام كجميع الخلق لتفرعهم عنه أو في الإسناد إذ أسند ما لآدم الذي هو الأصل والسبب إلى ما تفرع عنه وتسبب. وجعل بعضهم الكلام على تقدير المضاف، وذهب الإمام إلى أنه كناية عن خلق آدم عليه السلام، والمعنى خلقنا أباكم آدم عليه السلام طينا غير مصور ثم صورناه أبدع تصوير وأحسن تقويم سار ذلك إليكم. وجوز أن يكون التجوز في الفعل، والمراد ابتدأنا خلقكم ثم تصويركم بأن خلقنا آدم ثم صورناه، ويعود هذا إلى ابتداء خلق الجنس وابتداء خلق كل جنس بإجاد أول أفراده. فهو نظير قوله تعالى: * (خلق الإنسان من طين) * (السجدة: 7).
وعلى هذين الوجهين يظهر وجه العطف بثم في قوله تعالى: * (ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) * وزعم الأخفش أن * (ثم) * هنا بمعنى الواو، وتعقبه الزجاج بأنه خطأ لا يجيزه الخليل وسيبويه ولا من يوثق بعلمه لأن ثم للشيء الذي يكون بعد المذكور قبله لا غيره، وإنما المعنى إنا ابتدأنا خلق آدم عليه السلام من تراب ثم صورناه أي هذا أصل خلقكم ثم بعد الفراغ من أصلكم قلنا الخ، وقيل: إن * (ثم) * لترتيب الأخبار لا للترتيب الزماني حتى يحتاج إلى توجيه، والمعنى خلقناكم يا بني آدم مضغا غير مصورة ثم صورناكم بشق السمع والبصر وسائر الأعضاء كما روي عن يمان أو خلقناكم في أصلاب الرجال ثم صورناكم في أرحام النساء كما روي عن عكرمة ثم نخبركم أنا قلنا للملائكة الخ وإلى هذا ذهب جماعة من النحويين منهم علي بن عيسى والقاضي أبو سعيد السيرافي وغيرهما، وقال الطيبي: يمكن أن تحمل * (ثم) * على التراخي في الرتبة لأن مقام الامتنان يقتضي أن يقال: إن كون أبيهم مسجودا للملائكة أرفع درجة من خلقهم وتصويرهم.
وفيه تلويح إلى شرف العلم وتنبيه للمخاطبين على تحصيل ما فاز به أبوهم من تلك الفضيلة، ومن ثم عقب في البقرة الأمر بالسجود مسألة التحدي بالعلم. وعن ابن عباس ومجاهد والربيع وقتادة والسديأن المعنى خلقنا آدم عليه السلام ثم صورناكم في ظهره ثم قلنا الخ. وقد تقدم الكلام في المراد بالملائكة المأمورين بالسجود، وكذا الكلام في المراد بالسجود.
(٨٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 ... » »»