تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٨ - الصفحة ٨٧
وذكر بعض المحققين أن الظاهر أن يقال: ثم أمرنا الملائكة بالسجود لآدم إلا أنه عدل عن ذلك لأن الأمر بالسجود كان قبل خلق آدم عليه السلام على ما نطق به قوله تعالى: * (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) * (الحجر: 29 وص: 72) والواقع بعد تصويره إنما هو قوله سبحانه: * (اسجدوا لآدم) * وذلك لتعيين وقت السجدة المأمور بها قبل، والحاصل أنه سبحانه أمرهم أولا أمرا معلقا ثم أمرهم ثانيا أمرا منجزا مطابقا للأمر للأمر السابق فلذا جعله حكاية له، وفي ذلك ما لا يخفى من الاعتناء بشأن آدم عليه السلام.
* (فسجدوا) * أي الملائكة عليهم السلام بعد القول من غير تلعثم كلهم أجمعون * (إلا إبليس) * استثناء متصل سواء قلنا: إن إبليس من الملائكة حقيقة أم لا، أما على الأول: فظاهر، وأما على الثاني: فلأنه لما كان جنيا مفردا مغمورا بألوف من الملائكة متصفا بغالب صفاتهم غلبوا عليه في * (سجدوا) * ثم استثنى استثناء واحد منهم. وقيل: منقطع بناء على أنه من الجن وأنهم ليسوا من جنس الملائكة ولا تغليب، والأول هو المختار.
وذكر قوله تعالى: * (لم يكن من الساجدين) * أي ممن سجد لآدم عليه السلام مع أنه علم من الاستثناء عدم السجود لأن المعلوم من الاستثناء عدم العموم لا عموم العدم ، والمراد الثاني أي أنه لم يصدر منه السجود مطلقا لا معهم ولا منفردا. وهذا إنما يفيده التنصيص كذا قيل، ونظر فيه بأن التنصيص المذكور لا يفيد عموم الأحوال والأوقات فلا يتم ما ذكر، وتحقيق هذا المقام على ما ذكره المولى سري الدين أن يقال: إن القوم اختلفوا في أن الاستثناء من النفي إثبات أم لا، فقال الشافعي: نعم فيكون نقيض الحكم ثابتا للمستثنى بطريق العبارة، ويوافقه ظاهر عبارة " الهداية ". وذهب طائفة من الحنفية إلى أنه بطريق الإشارة. وذهب آخرون إلى أن المستثنى في حكم المسكوت عنه، وإنما يستفاد الحكم بطريق مفهوم المخالفة. واختار صاحب " البحر " أنه منطوق إشارة تارة وعبارة أخرى.
وإذا تقرر هذا فيمكن أن يقال في الجواب: إن المقام لما كان مقام التسجيل على إبليس بعدم السجود والتشهير والتوبيخ بتلك القبيحة الهائلة كان خليقا بالتصريح جديرا بالاحتياط لضعف التعويل على القرينة لائقا بكمال الإيضاح والتقرير فعدل عن طريق الحذف، وإن كان الكلام دالا على المحذوف إلى منهج الذكر والتصريح به، وهذا على رأي الشافعي ومن وافقه ظاهر وإليه أشار السراج الهندي في مباحث الاستثناء من " شرح المغني "، وأما على باقي المذاهب فالأمر أظهر لأن الحكم على المستثنى بنقيض حكم المستثنى منه إما بطريق الإشارة أو مفهوم المخالفة، وعلى كل فالمقام يأبى الاكتفاء بمثل ذلك ويقتضي التصريح بذكر الحكم.
وادعى مولانا ابن الكمال أن هذه الجملة إنما جيء بها لانقطاع الاستثناء وأنه لو كان الاستثناء متصلا يكون الاتيان بها ضائعا لأن عدم كون إبليس من الساجدين يفهم من الاستثناء على تقدير اتصاله. ولا يخفى ما فيه على من أحاط علما بما ذكرنا. واعترضه البعض أيضا بأنه على تقدير الانقطاع يكون ذلك ضائعا أيضا بناء على ما ظنه فإن ثبوت نقيض حكم المستثنى منه للمستثنى غير مختص بالمتصل، ولذا لا نراهم يذكرون مع المستثنى المنقطع أيضا نقيض حكم المستثنى منه إلا قليلا، ولو تم ما ذكره لوجب ذكر الخبر مع كل منقطع فليفهم.
* (قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) *.
* (قال) * استئناف مسوق للجواب عن سؤال نشأ من حكاية عدم سجوده كأنه قيل: فماذا قال الله تعالى
(٨٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 ... » »»