وقوله سبحانه: * (كتاب) * على بعض الاحتمالات خبر لمبتدأ محذوف أي هو أو ذلك كتاب، وقوله سبحانه: * (أنزل إليك) * أي من عنده تعالى صفة له مشرفة لقدره وقدر من أنزل إليه صلى الله عليه وسلم. وبني الفعل للمفعول جريا على سنن الكبرياء وإيذانا بالاستغناء عن التصريح بالفاعل لغاية ظهور تعينه وهو السر في ترك ذكر مبدأ الإنزال، والتوصيف بالماضي إن كان الكتاب عبارة، كالقرآن - عن القدر المشترك بين الكل والجزء ظاهر، وإن كان المجموع فلتحققه جعل كالماضي. واختار الزمخشري ومن وافقه أن المراد بالكتاب هنا السورة وفيه من المبالغة ما لا يخفى إن قلنا: إنه لم يطلق على البعض وإذا قلنا بإطلاقه على ذلك كما في قولهم: ثبت هذا الحكم بالكتاب فالأمر واضح. ومن الناس من جوز جعل * (كتاب) * مبتدأ والجملة بعده خبره على معنى كتاب أي كتاب أنزل إليك. ولا يخفى أن الأول أولى لأن هذا خلاف الأصل. وحذف المبتدأ أكثر من أن يحصى.
* (فلا يكن في صدرك حرج منه) * أي شك كما قال ابن عباس وغيره. وأصله الضيق واستعماله في ذلك مجاز - كما في " الأساس " - علاقته اللزوم فإن الشاك يعتريه ضيق الصدر كما أن المتيقن يعتريه انشراحه وانفساحه. والقرينة المانعة هو امتناع حقيقة الحرج والضيق من الكتاب وإن جوزتها فهو كناية. وعلى التقديرين هو قد صار حقيقة عرفية في ذلك كما قاله بعض المحققين.
وجوز أن يكون باقيا على حقيقته لكن في الكلام مضاف مقدر كخوف عدم القبول والتكذيب فإنه صلى الله عليه وسلم كان يخاف قومه وتكذيبهم وإعراضهم عنه وأذاهم له. ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى: * (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك) * (هود: 12) الآية. وللأول قوله تعالى: * (فلا تكونن من الممترين) * (يونس: 94) وقد يقال: إنه كناية عن الخوف والخوف كما يقع على المكروه يقع على سببه.
" وتوجيه النهي إلى الحرج بمعنى الشرك مع أن المراد نهيه عليه الصلاة والسلام عن ذلك قيل: إما للمبالغة في تنزيه ساحة الرسول صلى الله عليه وسلم عن الشك فإن النهي عن الشيء مما يوهم إمكان صدور المنهي عنه عن المنهي وإما للمبالغة في النهي فإن وقوع الشك في صدره عليه الصلاة والسلام سبب لاتصافه وحاشاه به والنهي عن السبب نهي عن المسبب بالطريق البرهاني ونفى له بالمرة كما في قوله سبحانه: * (ولا يجرمنكم شنآن قوم) * (المائدة: 8) وليس هذا من قبيل - لا أرينك ههنا - فإن النهي هناك وارد على المسبب مرادا به النهي عن السبب فيكون المآل نهيه عليه الصلاة والسلام عن تعاطي ما يورث الحرج فتأمل " انتهى. والذي ذهب إليه بعض المحققين أن المراد نهي المخاطب عن التعرض للحرج بطريق الكناية وأنه من قبيل - لا أرينك ههنا - في ذلك لما أن عدم كون الحرج في صدره من لوازم عدم كونه متعرضا للحرج كما أن عدم الرؤية من لوازم عدم الكون ههنا فالنافي لكونه من قبيل ذلك إن أراد الفرق بينهما باعتبار أن المراد في أحدهما النهي عن السبب والمراد المسبب وفي الآخر بالعكس فلا ضير فيه، ولهذا عبر البعض باللزوم دون السببية. وإن أراد أنه ليس من الكناية أصلا فباطل. نعم جوز أن يكون من المجاز. والمشهور أن الداعي لهذا التأويل أن الظاهر يستدعي نهي الحرج عن الكون في الصدر والحرج مما لا ينهى وله وجه وجيه فليفهم.
والجملة على تقدير كون الحرج حقيقة - كما يفهمه كلام الكشاف - كناية عن عدم المبالات بالأعداء. وأيا ما كان فالتنوين في * (حرج) * للتحقير، و (من) متعلقة بما عندها أو بمحذوف وقع صفة له أي حرج ما كائن منه. والفاء