تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٨ - الصفحة ٧٨
نعت مصدر أو زمان محذوف أقيم مقامه ونصبه بالفعل بعده وقدم عليه للقصر، و * (ما) * مزيد لتأكيد القلة لأنها تفيدها في نحو أكلت أكلا ما فهي ههنا قلة على قلة، والظاهر من القلة معناها، وجوز أن يراد بها العدم كما في قوله تعالى: * (فقليلا ما يؤمنون) * (البقرة: 88) وأجيز أن يكون * (قليلا) * نعت مصدر لتتبعوا أي اتباعا قليلا، قيل: ويضعفه أنه لا معنى حينئذ لقوله سبحانه: * (تذكرون) * وأما النهي عن الاتباع القليل فلا يضر لأنه يفهم منه غيره بالطريق البرهاني، وأن يكون حالا من فاعل * (لا تتبعوا) * و (ما) مصدرية أو موصولة فاعل له كما قيل ذلك في قوله تعالى: * (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون) * (الذاريات: 17) والنهي متوجه إلى القيد والمقيد جميعا واعترض بأنه لا طائل تحت معناه وأن وجه بما وجه، وأن يكون (ما) مصدرية أو موصولة مبتدأ، و * (قليلا) * على معنى زمانا قليلا خبره، وقيل: إن (ما) نافية و * (قليلا) * معمول لما بعده، والكوفيون يجوزون عمل ما بعد (ما) النافية فيما قبلها، والمعنى ما تذكرون قليلا فكيف تذكرون كثيرا وليس بشيء.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص * (تذكرون) * بحذف إحدى التاءين وذال مخففة. وقرأ ابن عامر * (يتذكرون) * بياء تحتية ومثناة فوقية وذال مخففة، وفي طريق شاذة عنه بتاءين فوقيتين. وقرأ الباقون بتاء فوقية وذال مشددة على إدغام التاء المهموسة في الذال المجهورة، والجملة - على ما قاله غير واحد - اعتراض تذييلي مسوق لتقبيح حال المخاطبين، والالتفات على القراءة المشهورة عن ابن عامر للإيذان باقتضاء سوء حالهم في عدم الامتثال بالأمر والنهي صرف الخطاب عنهم، وحكاية جناياتهم لغيرهم بطريق المباتة ولا حجة في الآية لنفاة القياس كما لا يخفى.
* (وكم من قرية أهلكن‍اها فجآءها بأسنا بي‍اتا أو هم قآئلون) *.
* (وكم من قرية أهلكناها) * شروع في تذكيرهم وإنذارهم ما نزل بمن قبلهم من العذاب بسبب إعراضهم عن دين الله تعالى وإصرارهم على أباطيل أوليائهم، و * (كم) * خبرية للتكثير في محل رفع على الابتداء؛ والجملة بعدها خبرها و * (من) * سيف خطيب و * (قرية) * تمييز. ويجوز أن يكون محل * (كم) * نصبا على الاشتغال، وضمير * (أهلكناها) * راجع إلى معنى كم فإن المعنى قرى كثيرة أهلكناها، والمراد بإهلاكها إرادة إهلاكها مجازا كما في قوله تعالى: * (إذا قمتم إلى الصلاة) * (المائدة: 6) الآية فلا إشكال في التعقيب الذي تفهمه الفاء في قوله سبحانه: * (فجاءها بأسنا) * أي عذابنا، واعترض هذا الجواب بعض المدققين بأن فيه إشكالا أصوليا، وهو أن الإرادة إن كانت باعتبار تعلقها التنجيزي فمجىء البأس مقارن لها لا متعقب لها وبعدها، وإن لم يرد ذلك فهي قديمة فإن كان البأس يعقبها لزم قدم العالم وإن تأخر عنها لزم العطف بثم. وأجيب بأن المراد التعلق التنجيزي قبل الوقوع أي قصدنا إهلاكها فتدبر، وقيل: إن المراد بالإهلاك الخذلان وعدم التوفيق فهو استعارة أو من إطلاق المسبب على السبب، وإلى هذا يشير كلام ابن عطية وتعقب بأنه اعتزالي وأن الصواب أن يقال: معناه خلقنا في أهلها الفسق والمخالفة فجاءها بأسنا، وقيل: المراد حكمنا بإهلاكها فجاءها، وقيل: الفاء تفسيرية نحو توضأ فغسل وجهه الخ. وقيل: إن الفاء للترتيب الذكري. وقال ابن عصفور: إن المراد أهلكناها هلاكا من غير استئصال فجاءها هلاك الاستئصال، وقال الفراء: الفاء بمعنى الواو أو المراد فظهر مجىء بأسنا واشتهر، وقيل: الكلام على القلب وفيه تقديم وتأخير أي أهلكناها بياتا أو هم قائلون فجاءها بأسنا فالإهلاك في الدنيا ومجىء البأس
(٧٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 ... » »»