وأن كلا من التقريرين السابقين لا يخلو بعد عن نظر فتدبر.
* (قل إننى هدانى ربىإلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) *.
* (قل إنني هداني ربي) * أمر له صلى الله عليه وسلم بأن يبين ما هو عليه من الدين الحق الذي يدعي المفرقون أنهم عليه وقد فارقوه بالكلية، وتصدير الجملة بحرف التحقيق لإظهار كمال العناية بمضمونها، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لما مر غير مرة أي قل يا محمد لهؤلاء المفرقين أو للناس كافة: أرشدني ربي بالوحي وبما نصب في الآفاق والأنفس من الآيات * (إلى صراط مستقيم) * موصل إلى الحق. وقوله سبحانه: * (دينا) * بدل من محل * (إلى طراط) * إذ المعنى فهداني صراطا نظير قوله تعالى: * (ويهديك صراطا مستقيما) * (الفتح: 2) أو مفعول فعل مضمر دل عليه المذكور أي هداني أو أعطاني أو عرفني دينا، وجوز أن يكون مفعولا ثانيا للمذكور. وقوله سبحانه: * (قيما) * مصدر كالصغر والكبر نعت به مبالغة. وجوز أن يكون التقدير ذا قيم، والقياس قوما كعوض وحول، فأعل تبعا لإعلال فعله أعني قام كالقيام. وقرأ كثير * (قيما) * وهو فيعل من قام أيضا كسيد من ساد - وهو على ما قيل - أبلغ من المستقيم باعتبار الهيئة والمستقيم أبلغ منه باعتبار مجموع المادة والهيئة، وقيل: أبلغية المستقيم لأن السين للطلب فتفيد طلب القيام واقتضاءه، ولا فرق بين القيم والمستقيم في أصل المعنى عند الكثير، وفسروا القيم بالثابت المقوم لأمر المعاش والمعاد، وجعلوا المستقيم من استقام الأمر بمعنى ثبت وإلا لا يتأتى ما ذكر، وقيل: المستقيم مقابل المعوج والقيم الثابت الذي لا ينسخ.
* (ملة إبراهيم) * نصب بتقدير أعني أو عطف بيان لدينا بناء على جواز تخالف البيان والمبين تعريفا وتنكيرا * (حنيفا) * أي مائلا عن الأديان الباطلة أو مخلصا لله تعالى في العبادة وهو حال من إبراهيم، وقد أطبقوا على جواز مجيء الحال من المضاف إليه إذا كان المضاف جزءا منه أو بمنزلة الجزء حيث يصح قيامه مقامه. والعامل في هذه الحال هو العامل في المضاف. وقيل: معنى الإضافة لما فيه من معنى الفعل المشعر به حرف الجر، وقد تقوى هذا المعنى هنا بما بين المتضايفين من الجزئية أو شبهها. وجوز أن يكون مفعولا لفعل مقدر أي أعني حنيفا.
* (وما كان من المشركين) * اعتراض مقرر لنزاهته عليه الصلاة والسلام عما عليه المبطلون، وقيل: عطف على ما تقدم. وفيه رد على الذين يدعون أنهم على ملته عليه الصلاة والسلام من أهل مكة القائلين: الملائكة بنات الله واليهود القائلين: عزيز ابن الله والنصارى القائلين: عيسى ابن الله.
* (قل إن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين) *.
* (قل إن صلاتي) * أي جنسها لتشمل المفروضة وغيرها. وأعيد الأمر لمزيد الاعتناء، وقيل: لأن المأمور به متعلق بفروع الشرائع وما سبق بأصولها * (ونسكي) * أي عبادتي كلها كما قال الزجاج والجبائي، وهو من عطف العام على الخاص. وعن سعيد بن جبير ومجاهد والسدي أن المراد به الذبيحة للحج والعمرة. وعن قتادة الأضحية، وجمع بينه وبين الصلاة كما في قوله تعالى: * (فصل لربك وانحر) * (الكوثر: 2) على المشهور. وقيل: المراد به الحج أي إن صلاتي وحجي * (ومحياي ومماتي) * أي ما يقارن حياتي وموتي من الإيمان والعمل الصالح. وقيل: يحتمل أن يكون المراد بالمحيا والممات ظاهرهما والأول هو المناسب لقوله تعالى: * (لله رب العالمين) *