بمعنى مفعول أولى من هذا الحمل وهو الذي أميل إليه، نعم ربما يدعى أن في ذلك إشارة ما إلى مزيد قرب الرحمة لكنه بعيد جدا وقد لا يسلم. والذي أختاره أن فعيلا هنا بمعنى فاعل لا بمعنى مفعول كما زعم الكرماني لما مرت الإشارة إليه، ولأن الرحمة صفة ذات عند جمع وصفات الذات - سواء قلنا بعينيتها أو بغيريتها أو بأنها لا ولا - لا يحسن الإخبار عنها بأنها مقربة، وذلك على القولين الأخيرين ظاهر وعلى الأول أظهر، والقول بأن في ذلك ترغيبا في الإحسان حيث أشير إلى أنه كالفاعل وقد أثر فيما لا يقبل التأثر مما لا يكاد يسلم، وأنه قد حمل على فعيل بمعنى مفعول كما حمل على ذلك في خصوصية قريب في قول جرير: أتنفعك الحياة وأم عمرو * قريب لا تزور ولا تزار وإنما لم يقل قريبة على الأصل للإشارة لأرباب الأذهان السليمة إلى أنها قريبة جدا من المحسنين كما لا يخفى على المتأمل. واختار بعضهم تفسير الرحمة هنا بالإحسان لمكان المحسنين * (وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان) * (الرحمان: 60) ولعله يعتبر شاملا للإحسان الدنيوي والأخروي. ووجه القرب - على ما قيل - وجود الأهلية بحسب الحكمة مع ارتفاع الموانع بالكلية. وفسرها ابن جبير بالثواب، والمتبادر منه الإحسان الأخروي. ووجه القرب عليه بأن الإنسان في كل ساعة من الساعات في إدبار الدنيا وإقبال على الآخرة، وإذا كان كذلك كان الموت أقرب إليه من الحياة فلا يكون بين المحسن والثواب في الآخرة إلا الموت وكل آت قريب.
وجعل الزمخشري الآية من قبيل قوله تعالى: * (وإني لغفار لمن تاب) * (طه: 82) الخ أي علق فيها الرحمة بإحسان الأعمال كما علق الغفران فيه بالتوبة والإيمان والعمل الصالح فكأن (من تاب وآمن) الخ تفسير للمحسينين وهو إشارة إلى ما يزعمه قومه من أن الآية تدل على أن صاحب الكبيرة لا يخلص من النار لأنه ليس من المحسنين، والتخليص من النار بعد الدخول فيها رحمة. وأجيب بأن صاحب الكبيرة مؤمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ومن يكون كذلك فهو محسن بدليل أن الصبي إذا بلغ ضحى وآمن ومات قبل الظهر فقد اجتمعت الأمة على أنه داخل تحت قوله تعالى: * (للذين أحسنوا الحسنى) * (يونس: 26) فهو محسن بمجرد الإيمان، والقول بأن المحسنين هم الذين أتوا بجميع أنواع الإحسان على ما يؤذن به الآية الممثل بها أول البحث أول المسألة. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أنه فسر المحسنين بالمؤمنين. وعن بعضهم تفسيره بالداعين خوفا وطمعا لقرينة السباق على ذلك ونظر فيه.
* (وهو الذى يرسل الرياح بشرى بين يدى رحمته حتى إذآ أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به المآء فأخرجنا به من كل الثمرات كذالك نخرج الموتى لعلكم تذكرون) *.
* (وهو الذي يرسل الرياح) * عطف على الجملة السابقة أو على حديث خلق السموات والأرض. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي * (الريح) * على الوحدة وهو متحمل لمعنى الجنسية فيطلق على الكثير. وخبر " اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا " مخرج على قراءة الأكثرين * (بشرا) * بضم الموحدة وسكون الشين مخفف بشرا بضمتين جمع بشير كنذر ونذير أي مبشرات وهي قراءة عاصم. وروي عنه أيضا * (بشرا) * على الأصل. وقرىء بفتح الباء على أنه مصدر بشره بالتخفيف بمعنى بشره المشدد. والمراد باشرات أو للبشارة. وقرىء * (بشرى) * كحبلى وهو مصدر أيضا من البشارة. وقرأ أهل المدينة والبصرة * (نشرا) * بضم النون والشين جمع نشور بفتح النون بمعنى ناشر، وفعول بمعنى فاعل يطرد جمعه كذلك كصبور وصبر، ولم يجعل جمع ناشر كبازل وبزل لأن جمع فاعل على فعل شاذ.