ابن الحبيب الذي سرت به نفسي فإنه على تقدير صحته يهدم ما يزعمه النصارى من أنه عليه السلام تجسد بروح القدس في بطن أمه. وما فيه من وصفه عليه السلام بالبنوة سيأتي إن شاء الله تعالى الجواب عنه. * (فآمنوا بالله) * وخصوه بالألوهية * (ورسله) * أجمعين ولا تخرجوا أحدا منهم إلى ما يستحيل وصفه به من الألوهية * (ولا تقولوا ثلاثة) * أي الآلهة ثلاثة: الله سبحانه والمسيح ومريم كما يبنىء عنه قوله تعالى: * (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) * (المائدة: 116) إذ معناه إلهين غير الله تعالى فيكونون معه ثلاثة. وحكي هذا التقدير عن الزجاج، أو الله سبحانه ثلاثة إن صح عنهم أنهم يقولون: الله تعالى جوهر واحد ثلاثة أقانيم، أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم روح القدس، وأنهم يريدون بالأول الذات أو الوجود، وبالثاني العلم أي الكلمة، وبالثالث الحياة كذا قيل.
وتحقيق الكلام في هذا المقام على ما ذكره بعض المحققين أن النصارى اتفقوا على أن الله تعالى جوهر بمعنى قائم بنفسه غير متحيز ولا مختص بجهة ولا مقدر بقدر ولا يقبل الحوادث بذاته ولا يتصور عليه الحدوث والعدم، وأنه واحد بالجوهرية، ثلاثة بالأقنومية، والأقانيم صفات للجوهر القديم، وهي الوجود والعلم والحياة، وعبروا عن الوجود بالأب والحياة بروح القدس والعلم بالكلمة. ثم اختلفوا فذهب الملكانية أصحاب ملكا الذي ظهر بالروم واستولى عليها إلى أن الأقانيم غير الجوهر القديم، وأن كل واحد منها إله، وصرحوا بإثبات التثليث، وقالوا: إن الله ثالث ثلاثة سبحانه وتعالى عما يشركون، وأن الكلمة اتحدت بجسد المسيح وتدرعت بناسوته وامتزجت به امتزاج الماء بالخمر وانقلبت الكثرة وحدة وأن المسيح ناسوت كلي لا جزئي وهو قديم أزلي، وأن مريم ولدت إلها أزليا مع اختلافهم في مريم أنها إنسان كلي أو جزئي، واتفقوا على أن اتحاد اللاهوت بالمسيح دون مريم، وأن القتل والصلب وقع على الناسوت واللاهوت معا، وأطلقوا لفظ الأب على الله تعالى، والابن على عيسى عليه السلام.
وذهب نسطور الحكيم - في زمان المأمون - إلى أن الله تعالى واحد والأقانيم الثلاثة ليست غير ذاته ولا نفس ذاته، وأن الكلمة اتحدت بجسد المسيح لا بمعنى الامتزاج بل بمعنى الإشراق أي أشرقت عليه كإشراق الشمس من كوة على بلور. ومن النسطورية من قال: إن كل واحد من الأقانيم الثلاثة حي ناطق موجود، وصرحوا بالتثليث كالملكانية، ومنهم من منع ذلك، ومنهم من أثبت صفات أخر كالقدرة والإرادة ونحوها لكن لم يجعلوها أقانيم، وزعموا أن الابن لم يزل متولدا من الأب وإنما تجسده وتوحده بجسد المسيح حين ولد، والحدوث راجع إلى الناسوت، فالمسيح إله تام وإنسان تام، وهما قديم وحادث، والاتحاد غير مبطل لقدم القديم ولا لحدوث الحادث، وقالوا: إن الصلب ورد على الناسوت دون اللاهوت.
وذهب بعض اليعقوبية إلى أن الكلمة انقلبت لحما ودما فصار الإله هو المسيح، وقالوا: إن الله هو المسيح عيسى ابن مريم، ورووا عن يوحنا الإنجيلي أنه قال في صدر " إنجيله ": إن الكلمة صارت جسدا وحلت فينا، وقال: في البدء كانت الكلمة والكلمة عند الله والله تعالى هو الكلمة، ومنهم من قال: ظهر اللاهوت بالناسوت بحيث صار هو هو وذلك كظهور الملك في الصورة المشار إليه بقوله تعالى: * (فتمثل لها بشرا سويا) * (مريم: 17) ومنهم من قال: جوهر الإله القديم وجوهر الإنسان المحدث تركبا تركب النفس الناطقة مع البدن وصارا جوهرا واحدا وهو المسيح وهو الإله، ويقولون صار الإله إنسانا وإن لم يصر الإنسان إلها كما يقال في الفحمة الملقاة في النار: صارت نارا ولا يقال: صارت النار فحمة، ويقولون: إن اتحاد اللاهوت بالإنسان الجزئي دون الكلي، وأن مريم ولدت إلها وأن القتل والصلب واقع على اللاهوت والناسوت جميعا إذ لو كان على