ما رجع إلى الإنسان من جزاء أعماله سمي به بتصور أن ما عمله يرجع إليه كما يشير إليه قوله تعالى: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * (الزلزلة: 7) حيث لم يقل سبحانه - ير جزاءه - إلا أن الأكثر المتعارف استعماله في الخير، ومثله في ذلك المثوبة واستعمالها هنا في الشر على طريقة التهكم كقوله: تحية بينهم ضرب وجيع ونصبها على التمييز من * (بشر) *، وقيل: يجوز أن تجعل مفعولا له - لأنبئكم - أي هل أنبئكم لطلب مثوبة عند الله تعالى في هذا الإنباء، ويحتمل أن يصير سبب مخافتكم ويفضي إلى هدايتكم، وعليه فالمثوبة في المتعارف من استعمالها، وهو وإن كان له وجه لكنه خلاف الظاهر، وقرىء * (مثوبة) * بسكون الثاء وفتح الواو، ومثلها مشورة ومشورة خلافا للحريري في إيجابه مشورة كمعونة.
وقوله سبحانه: * (من لعنه الله وغضب عليه) * خبر لمبتدأ محذوف بتقدير مضاف قبله مناسب لما أشير إليه بذلك أي دين من لعنه الله الخ، أو بتقدير مضاف قبل اسم الإشارة مناسب لمن أي بشر من أهل ذلك، والجملة على التقديرين استئناف وقع جوابا لسؤال نشأ من الجملة الاستفهامية - كما قال الزجاج - إما على حالها - أو باعتبار التقدير فيها فكأنه قيل: ما الذي هو شر من ذلك؟ فقيل: هو دين من لعنه الخ، أو من الذي هو شر من أهل ذلك؟ فقيل: هو من لعنه الله الخ. وجوز - ولا ينبغي أن يجوز عند التأمل - أن يكون بدلا من شر، ولا بد من تقدير مضاف أيضا على نحو ما سبق آنفا، والاحتياج إليه ههنا - ليخرج من كونه بدل - غلط، وهو لا يقع في فصيح الكلام، وأما في الوجه الأول فأظهر من أن يخفى، وإذا جعل ذلك إشارة إلى الأشخاص لم يحتج الكلام إلى ذلك التقدير كما هو ظاهر، ووضع الاسم الجليل موضع الضمير لتربية المهابة وإدخال الروعة وتهويل أمر اللعن وما تبعه والموصول عبارة عن أهل الكتاب حيث أبعدهم الله تعالى عن رحمته وسخط عليهم بكفرهم وانهماكهم في المعاصي بعد وضوح الآيات وسطوع البينات. * (وجعل منهم القردة والخنازير) * أي مسخ بعضهم قردة - وهم أصحاب السبت - وبعضهم خنازير - وهم كفار مائدة عيسى عليه الصلاة والسلام - وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المسخين كانا في أصحاب السبت، مسخت شبانهم قردة وشيوخهم خنازير، وضمير * (منهم) * راجع إلى - من - باعتبار معناه كما أن الضميرين الأولين له باعتبار لفظه، وكذا الضمير في قوله سبحانه: * (وعبد الطاغوت) * فإنه عطف على صلة - من - كما قال الزجاج، وزعم الفراء أن في الكلام موصولا محذوفا أي ومن عبد، وهو معطوف على منصوب * (جعل) * أي وجعل منهم من عبد الخ، ولا يخفى أنه لا يصلح إلا عند الكوفيين، والمراد بالطاغوت - عند الجبائي - العجل الذي عبده اليهود، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والحسن أنه الشيطان، وقيل: الكهنة وكل من أطاعوه في معصية الله تعالى.
والعبادة فيما عدا القول الأول مجاز عن الإطاعة، قال شيخ الإسلام (3 / 55): " وتقديم أوصافهم المذكورة بصدد إثبات شرية دينهم على وصفهم هذا مع أنه الأصل المستتبع لها في الوجود وأن دلالته على شريته بالذات لأن عبادة الطاغوت عين دينهم البين البطلان، ودلالتها عليها بطريق الاستدلال بشرية الآثار على شرية ما يوجبها من الاعتقاد، والعمل إما للقصد إلى تبكيتهم من أول الأمر بوصفهم بما لا سبيل لهم إلى الجحود لا بشريته وفظاعته ولا باتصافهم به، وإما للإيذان باستقلال كل من المقدم والمؤخر بالدلالة على ما ذكر من الشرية ولو روعي ترتيب الوجود، وقيل: من عبد الطاغوت ولعن الله وغضب عليه الخ لربما فهم أن عليه الشرية هو المجموع " انتهى.