تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٦ - الصفحة ١٥٣
مما في كتابهم، وإنما الذين كلفوا العمل به من مضى قبل النسخ، والخطاب - كما قال جماعة من المفسرين - للناس كافة الموجودين والماضين بطريق التغليب، و - الشرعة - بكسر الشين، وقرأ يحيى بن وثاب بفتحها الشريعة، وهي في الأصل الطريق الظاهر الذي يوصل منه إلى الماء، والمراد بها الدين، واستعمالها فيه نكونه سبيلا موصلا إلى ما هو سبب للحياة الأبدية كما أن الماء سبب للحياة الفانية، أو لأنه طريق إلى العمل الذي يطهر العامل عن الأوساخ المعنوية كما أن الشريعة طريق إلى الماء الذي يطهر مستعمله عن الأوساخ الحسية. وقال الراغب " سمي الدين شريعة تشبيها بشريعة الماء من حيث إن من شرع في ذلك على الحقيقة (المصدوقة) روي وتطهر، (قال:) (4) وأعني بالري ما قال بعض الحكماء: كنت أشرب فلا أروى فلما عرفت الله تعالى رويت بلا شرب، وبالتطهر ما قال تعالى: * (ويطهركم تطهيرا) * (الأحزاب: 33) " والمنهاج الطريق الواضح في الدين من نهج الأمر إذا وضح، والعطف باعتبار جمع الأوصاف، وقال المبرد: الشرعة ابتداء الطريق، والمنهاج الطريق المستقيم، وقيل: هما بمعنى واحد وهو الطريق، والتكرير للتأكيد، والعطف مثله في قول الحطيئة:
وهند أتى من دونها النأي والبعد وقول عنترة: حييت من طلل تقادم عهده * أقوى وأقفر بعد أم الهيثم وقيل: الشرعة الطريق مطلقا سواء كان واضحا أم لا، وقيل: المنهاج الدليل، وقيل: الشرعة النبي صلى الله عليه وسلم والمنهاج الكتاب، وقيل: الشرعة الأحكام الفرعية، والمنهاج الأحكام الاعتقادية وليس بشيء، واللام متعلقة - بجعلنا - المتعدية لواحد، وهوإخبار بجعل ماض لا إنشاء، وتقديمها عليه للتخصيص، و * (منكم) * متعلق بمحذوف وقع صفة لما عوض عنه تنوين - كل - أي: ولكل أمة كائنة منكم أيها الأمم الباقية، والخالية عينا ووضعنا شرعة ومنهاجا خاصين بتلك الأمة لا تكاد أمة تتخطى شرعتها، والأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما الصلاة والسلام شرعتهم ما في التوراة، والتي كانت من مبعث عيسى عليه السلام إلى مبعث أحمد عليه الصلاة والسلام شرعتهم ما في الإنجيل، وأما أنتم أيها الموجودون فشرعتكم ما في الفرقان ليس إلا فآمنوا به واعملوا بما فيه، وأوجب أبو البقاء تعلق * (منكم) * بمحذوف تقديره أعني، ولم يجوز الوصفية لما أن ذلك يوجب الفصل بين الصفة والموصوف بالأجنبي الذي لا تسديد فيه للكلام، ويوجب أيضا أن يفصل بين * (جعلنا) * ومعموله وهو شرعة، وقال شيخ الإسلام: لا ضير في توسط * (جعلنا) * بين الصفة والموصوف كما في قوله تعالى: * (أغير الله اتخذ وليا فاطر السموات والأرض) * (الأنعام: 14) الخ، والفصل بين الفعل ومفعوله لازم على كل حال، وما ذكر من كون الخطاب للأمم هو الظاهر، وقيل: إنه للأنبياء الذين أشير إليهم في الآيات قبل ولا يخفى بعده، وأبعد منه جعل الخطاب لهذه الأمة المحمدية ولا يساعده السباق ولا اللحاق.
واستدل بالآية من ذهب إلى أنا غير متعبدين بشرائع من قبلنا لأن الخطاب كما علمت يعم الأمم، واللام للاختصاص، فيكون لكل أمة دين يخصها، ولو كان متعبدا بشريعة أخرى لم يكن ذلك الاختصاص. وأجاب العلامة التفتازاني بعد تسليم دلالة اللام على الاختصاص الحصري بمنع الملازمة لجواز أن نكون متعبدين بشريعة من قبلنا مع زيادة خصوصيات في ديننا بها يكون الاختصاص، وفيه أنه لا حاجة في إفادة الحصر لما ذكر مع تقدم المتعلق، وأيضا إن الخصوصيات المذكورة لا تنافي تعبدنا بشرع من قبلنا لأن القائلين به يدعون أنه فيما لم يعلم نسخه ومخالفة ديننا له لا مطلقا إذ لم يقل به أحد على الإطلاق، ولذا جمع المحققون بين أضراب هذه الآية الدالة على اختلاف الشرائع، وبين ما يخالفها نحو قوله تعالى: * (شرع لكم من الدين ما وصى
(١٥٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 148 149 150 151 152 153 154 155 156 157 158 ... » »»