تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٥ - الصفحة ٧٣
الاقتصار على ثابت بن قيس، وعلى هذا الأثر وجه مناسبة ذكر هذه الآية مما لا يخفى، وكأنه لذلك قال صاحب " الكشاف " في معناها: " لو أوجبنا عليهم مثل ما أوجبنا على بني إسرائيل من قتلهم أنفسهم، أو خروجهم من ديارهم حين استتيبوا من عبادة العجل ما فعلوه إلا قليل "، وقال بعضهم: إن المراد أننا قد حففنا عليهم حيث اكتفينا منهم في توبتهم بتحكيمك والتسليم له ولو جعلنا توبتهم كتوبة بني إسرائيل لم يتوبوا، والذي يفهم من فحوى الأخبار المعول عليها أن هذه الكتابة لا تعلق لها بالاستتابة، ولعل المراد من ذكر ذلك مجرد التنبيه على قصور كثير من الناس ووهن إسلامهم إثر بيان أنه لا يتم إيمانهم إلا بأن يسلموا حق التسليم، وظاهر ما ذكره الزمخشري من أن بني إسرائيل أمروا بالخروج حين استتيبوا مما لا يكاد يصح إذا أريد بالديار الديار المصرية لأن الاستتابة من عبادة العجل إنما كانت بعد الخروج منها وبعد انفلاق البحر - وهذا مما لا امتراء فيه - على أنا لا نسلم أنهم أمروا بالخروج استتابة في وقت من الأوقات، وحمل الذلة على الخروج من الديار لأن ذل الغربة مثل مضروب في قوله تعالى: * (إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة) * (الأعراف: 152) لا يفيد إذ الآية لا تدل على الأمر به والنزاع فيه على أن في كون هذه الآية في التائبين من عبادة العجل نزاعا، وقد حقق بعض المحققين أنها في المصرين المستمرين على عبادته كما ستعلمه إن شاء الله تعالى؛ والعجب من صاحب " الكشف " كيف لم يتعقب كلام صاحب " الكشاف " بأكثر من أنه ليس منصوصا في القرآن، ثم نقل كلامه في الآية.
هذا والكلام في * (لو) * هنا أشهر من نار على علم، وحقها كما قالوا: أن يليها فعل، ومن هنا قال الطبرسي: " التقدير لو وقع كتبنا عليهم "، وقال الزجاج: إنها وإن كان حقها ذلك إلا أن إن الشديدة تقع بعدها لأنها تنوب عن الاسم والخبر فنقول ظننت أنك عالم كما تقول: ظننتك عالما أي ظننت علمك ثابتا فهي هنا نائبة عن الفعل والاسم كما أنها هناك نائبة عن الاسم والخبر، وضمير الجمع في * (عليهم) * وما بعده قيل: للمنافقين ونسب إلى ابن عباس ومجاهد، واعترض بأن فعل القليل منهم غير متصور إذ هم المنافقون الذين لا تطيب أنفسهم بما دون القتل بمراتب، وكل شيء دون المنية سهل، فكيف تطيب بالقتل ويمتثلون الأمر به؟ وأجيب بأن المراد لو كتبنا على المنافقين ذلك ما فعله إلا قليل منهم رياءا وسمعة وحينئذ يصعب الأمر عليهم وينكشف كفرهم، فإذ لم نفعل بهم ذلك بل كلفناهم الأشياء السهلة فليتركوا النفاق وليلزموا الإخلاص، ونسب ذلك للبلخي.
ولا يخفى أن قوله صلى الله عليه وسلم في عبد الله بن رواحة: " لو أن الله تعالى كتب ذلك لكان منهم " وكذا غيره من الأخبار السالفة تأبى هذا التوجيه غاية الإباء لأنها مسوقة للمدح، ولا مدح في كون أولئك المذكورين من القليل الذين يمتثلون الأمر رياءا وسمعة بل ذلك غاية في الذم لهم وحاشاهم، وقيل: للناس مطلقا، والقلة إضافية لأن المراد بالقليل المؤمنون وهم وإن كثروا قليلون بالنسبة إلى من عداهم من المنافقين، والكفرة المتمردين * (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) * (يوسف: 103) وحينئذ لا يرد أنه يلزم من الآية كون بني إسرائيل أقوى إيمانا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث امتثلوا أمر الله تعالى لهم بقتل أنفسهم حتى بلغ قتلاهم سبعين ألفا، ولا يمتثله لو كان من الصدر الأول إلا قليل ومن الناس من جعل الآية بيانا لكمال اللطف بهذه الأمة حيث إنه لا يقبل القتل منهم إلا القليل لأن الله تعالى يعفو عنهم بقتل قليل ولا يدعهم أن يقتل الكثير كبني إسرائيل إلا أنهم لا يفعلون كما فعل بنو إسرائيل لقلة المخلصين فيهم وكثرة المخلصين في بني إسرائيل ليلزم التفضيل. وقيل: يحتمل أن يكون قتل كثير من بني إسرائيل لأنهم لو لم ينقادوا لأهلكهم عذاب الله تعالى، وهذه
(٧٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 ... » »»