الحمل غير اختياري، فالحق أن العذاب على النفس الحساسة بأي بدن حلت وفي أي جلد كانت وكذا يقال في النعيم، ويؤيد هذا أن من أهل النار من يملأ زاوية من زوايا جهنم وأن سن الجهنمي كجبل أحد، وأن أهل الجنة يدخلونها على طول آدم عليه السلام ستين ذراعا في عرض سبعة أذرع، ولا شك أن الفريقين لم يباشروا الشر والخير بتلك الأجسام بل من أنصف رأى أن أجزاء الأبدان في الدنيا لا تبقى على كميتها كهولة وشيوخة وكون الماهية واحدة لا يفيد لأنا لم ندع فيما نحن فيه أن الجلد الثاني يغاير الأول كمغايرة العرض للجوهر أو الإنسان للحجر بل كمغايرة زيد المطيع لعمرو العاصي مثلا على أنه لو قيل: إن الكافر يعذب أولا: ببدن من حديد تحله الروح، وثانيا: ببدن من غيره كذلك لم يسغ لأحد أن يقول: إن الحديد لم يعص فكيف أحرق بالنار ولولا ما علم من الدين بالضرورة من المعاد الجسماني بحيث صار إنكاره كفرا لم يبعد عقلا القول بالنعيم والعذاب الروحانيين فقط. ولما توقف الأمر عقلا على إثبات الأجسام أصلا، ولا يتوهم من هذا أني أقول باستحالة إعادة المعدوم معاذ الله تعالى، ولكني أقول بعدم الحاجة إلى إعادته وإن أمكنت، والنصوص في هذا الباب متعارضة، فمنها ما يدل على إعادة الأجسام بعينها بعد إعدامها، ومنها ما يدل على خلق مثلها وفناء الأولى، ولا أرى بأسا بعد القول بالمعاد الجسماني في اعتقاد أي الأمرين كان، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في الآيات التي يدل ظاهرها على إعادة العين مثل قوله سبحانه: * (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) * (النور: 24) وما في " شرح البخاري " للسفيري - من أنه لا تزال الخصومة بين الناس حتى تختصم الروح والجسد يوم القيامة، فتقول الروح للجسد: أنت فعلت وأني كنت ريحا ولولاك لم أستطع أن أعمل شيئا، ويقول الجسد للروح: أنت أمرت وأنت سولت ولولاك لكنت بمنزلة الجذع الملقى لا أحرك يدا ولا رجلا، فيبعث الله تعالى ملكا يقضي بينهما فيقول لهما: إن مثلكما كمثل رجل مقعد بصير وآخر ضرير دخلا بستانا فقال المقعد للضرير: إني أرى ههنا ثمارا لكن لا أصل إليها فقال له الضرير: اركبني فتناولها فأيهما المتعدي؟ فيقولان كلاهما فيقول لهما الملك: فإنكما قد حكمتما على أنفسكما - لا أراه صحيحا لظهور الفرق بين المثال والممثل له فإن الحامل فيما نحن فيه لا اختيار له ولا شعور بوجه من الوجوه اللهم إلا أن يكون هناك شعور لكن لا شعور لنا به " ولعل لنا عودة إن شاء الله تعالى لتحقيق هذا المقام، ثم إن هذا التبديل كيفما كان يكون في الساعة الواحدة مرات كثيرة. فقد أخرج ابن مردويه وأبو نعيم في " الحلية " عن ابن عمر قال: " قرىء عند عمر هذه الآية فقال كعب: عندي تفسيرها قرأتها قبل الإسلام فقال هاتها يا كعب فإن جئت بها سمعت كما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقناك قال: إني قرأتها قبل (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها في الساعة الواحدة عشرين ومائة مرة) فقال عمر: هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرج ابن أبي شيبة وغيره عن الحسن قال: " بلغني أنه يحرق أحدهم في اليوم سبعين ألف مرة كلما نضجتهم النار وأكلت لحومهم قيل لهم: عودوا فعادوا ".
* (ليذوقوا العذاب) * أي ليدوم ذوقه ولا ينقطع كقولك للعزيز: أعزك الله والتعبير عن إدراك العذاب بالذوق من حيث إنه لا يدخله نقصان بدوام الملابسة، أو للإشعار بمرارة العذاب مع إيلامه أو للتنبيه على شدة تأثيره من حيث إن القوة الذائقة أشد الحواس تأثيرا أو على سرايته للباطن، ولعل السر في تبديل الجلود مع قدرته تعالى على إبقاء إدراك العذاب وذوقه بحال مع الاحتراق أو مع بقاء أبدانهم على حالها مصونة عنه أن