تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٥ - الصفحة ٦٤
أن هذا خطاب لولاة الأمر أن يقوموا برعاية الرعية وحملهم على موجب الدين والشريعة، وعدوا من ذلك تولية المناصب مستحقيها، وجعلوا الخطاب الآتي لهم أيضا، وفي تصدير الكلام - بإن - الدالة على التحقيق وإظهار الاسم الجليل وإيراد الأمر على صورة الإخبار من الفخامة وتأكيد وجوب الامتثال والدلالة على الاعتناء بشأنه ما لا مزيد عليه، ولهذا ورد من حديث ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا إيمان لمن لا أمانة له ". وأخرج البيهقي في " الشعب " عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أربع إذا كن فيك فلا عليك فيما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة وصدق حديث وحسن خليقة وعفة طعمة ". وأخرج عن ميمون بن مهران " ثلاث تؤدين إلى البر والفاجر: الرحم توصل برة كانت أو فاجرة والأمانة تؤدى إلى البر والفاجر والعهد يوفى به للبر والفاجر "، وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان " والأخبار في ذلك كثيرة، وقرىء - الأمانة - بالإفراد والمراد الجنس لا المعهود أي يأمركم بأداء أي أمانة كانت.
* (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) * أمر بإيصال الحقوق المتعلقة بذمم الغير إلى أصحابها إثر الأمر بإيصال الحقوق المتعلقة بذممهم، فالواو للعطف، والظرف متعلق بما بعد أن وهو معطوف على * (أن تؤدوا) * والجار متعلق به أو بمقدر وقع حالا من فاعله أي: ويأمركم أن تحكموا بالإنصاف والسوية، أو متلبسين بذلك إذا قضيتم بين الناس ممن ينفذ عليه أمركم أو يرضى بحكمكم، وهذا مبني على مذهب من يرى جواز تقدم الظرف المعمول لما في حيز الموصول الحرفي عليه، والفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف، وفي " التسهيل " الفصل بين العاطف والمعطوف إذا لم يكن فعلا بالظرف والجار والمجرور جائز وليس ضرورة خلافا لأبي علي، ولقيام الخلاف في المسألة ذهب أبو حيان إلى أن الظرف متعلق بمقدر يفسره المذكور أي - وأن تحكموا إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا - ليسلم مما تقدم، ولا يجوز تعلقه بما قبله لعدم استقامة المعنى لأن تأدية الأمانة ليست وقت الحكومة، والمراد بالحكم ما كان عن ولاية عامة أو خاصة، وأدخلوا في ذلك ما كان عن تحكيم.
وفي بعض الآثار أن صبيين ارتفعا إلى الحسن رضي الله تعالى عنه بن علي كرم الله تعالى وجهه في خط كتباه وحكماه في ذلك ليحكم أي الخطين أجود فبصر به علي كرم الله تعالى وجهه فقال: يا بني أنظر كيف تحكم فإن هذا حكم والله تعالى سائلك عنه يقوم القيامة.
* (إن الله نعما يعظكم به) * جملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها متضمنة لمزيد اللطف بالمخاطبين وحسن استدعائهم إلى الامتثال وإظهار الاسم الأعظم لتربية المهابة وهو اسم * (إن) * وجملة * (نعما يعظكم) * خبرها، و (ما) إما بمعنى الشيء معرفة تامة، و * (يعظكم) * صفة موصوف محذوف وهو المخصوص بالمدح، أي نعم الشيء شيء يعظكم به، ويجوز - نعم هو أي الشيء شيئا يعظكم به - والمخصوص بالمدح محذوف، وإما بمعنى الذي وما بعدها صلتها وهو فاعل - نعم - والمخصوص محذوف أيضا، أي نعم الذي يعظكم به تأدية الأمانة والحكم بالعدل - قاله أبو البقاء - ونظر فيه بأنه قد تقرر أن فاعل - نعم - إذا كان مظهرا لزم أن
(٦٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 ... » »»