تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٤ - الصفحة ٩٧
وحكمه لا يعقب، وفيه من المبالغة في رد مقالتهم الباطلة ما لا يخفى، وزعم بعض أن الظاهر الأبلغ أن يراد بمن كتب عليهم القتل الكفار القاتلون أي لخرج الذين يقتلون من بين قومهم إلى مضاجع المقتولين ولم ينج أحد منهم مع تحصنهم بالمدينة وتحفظهم في بيوتهم ولا يخفى بعده لما فيه من التفكيك، ولأن الظاهر من * (عليهم) * أنهم مقتولون لا قاتلون، وقيل: المعنى لو لزمتم منازلكم أيها المنافقون والمرتابون وتخلفتم عن القتال لخرج إلى البراز المؤمنون الذين فرض عليهم القتال صابرين محتسبين فيقتلون ويقتلون، ويؤول إلى قولنا: لو تخلفتم عن القتال لا يتخلف المؤمنون، والمضاجع جمع مضجع فإن كان بمعنى المرقد فهو استعارة للمصرع، وإن كان بمعنى محل امتداد البدن مطلقا للحي والميت فهو حقيقة، وقرىء * (كتب) * بالبناء للفاعل، ونصب * (القتل) * و * (كتب عليهم القتال) * و * (لبرز) * بالتشديد على البناء للمفعول.
* (وليبتلي الله ما في صدوركم) * أي ليختبر الله تعالى ما في صدوركم بأعمالكم فإنه قد علمه غيبا ويريد أن يعلمه شهادة لتقع المجازاة عليه قاله الزجاج، أو ليعاملكم معاملة المبتلي الممتحن قاله غير واحد، وهو خطاب للمؤمنين واللام للتعليل ومدخولها علة لفعل مقدر قبل مطوف على علل أخرى مطوية للإيذان بكثرتها كأنه قيل فعل ما فعل لمصالح جمة وليتلي الخ أو لفعل مقدر بعد أي وللابتلاء المذكور فعل ما فعل لا لعدم العناية بشأن أوليائه وأنصار نبيه صلى الله عليه وسلم مثلا. والعطف على هذا عند بعض المحققين على قوله تعالى: * (أنزل عليكم) * والفصل بينهما مغتفر لأن الفاصل من متعلقات المعطوف عليه لفظا أو معنى، وقيل: إنه لا حذف في الكلام وإنما هو معطوف على قوله تعالى: * (لكيلا تحزنوا) * (آل عمران: 153) أي أثابكم بالغم لأمرين عدم الحزن والابتلاء، واستبعد بأن توسط تلك الأمور محتاج إلى نكتة حينئذ، وهي غير ظاهرة، وأبعد منه بل لا يكاد يقبل العطف على قوله تعالى: * (ليبتليكم) * (آل عمران: 152) أي صرفكم عنهم ليبتليكم وليبتلي ما في صدوركم، وجعله بعضهم معطوفا على علة محذوفة وكلتا العلتين * (لبرز الذين) * كأنه قيل لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم لنفاذ القضاء أو لمصالح جمة وللابتلاء.
واعترض بأن الذوق السليم يأباه فإن مقتضى المقام بيان حكمة ما وقع يومئذ من الشدة والهول لا بيان حكمة البروز المفروض، وإنما جعل الخطاب للمؤمنين لأنهم المعتد بهم ولأن إظهار حالهم مظهر لغيرهم. وقيل: إنه لهم وللمنافقين أي ليبتلي ما في سرائركم من الإخلاص والنفاق، وقيل: للمنافقين خاصة لأن سوق الآية لهم.
وظاهر قوله تعالى: * (وليمحص ما في قلوبكم) * أي ليخلص ما فيها من الاعتقاد من الوسواس، يرجح الأول: لأن المنافقين لا اعتقاد لهم ليمحص من الوساوس ويخلص منها، ولعل القائلين بكون الخطاب للمنافقين فقط أو مع المؤمنين يفسرون التمحيص بالكشف والتمييز أي ليكشف ما في قلوبكم من مخفيات الأمور أو النفاق ويميزها، إلا أن حمل التمحيص على هذا المعنى يجعل هذه الجملة كالتأكيد لما قبلها وإنما عبر بالقلوب هنا كما قيل: لأن التمحيص متعلق بالاعتقاد على ما أشرنا إليه وقد شاع استعمال القلب مع ذلك فيقال: اعتقد بقلبه ولا تكاد تسمعهم يقولون اعتقد بصدره أو آمن بصدره، وفي القرآن * (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان) * (المجادلة: 22) وليس فيه كتب في صدورهم الإيمان، نعم يذكر الصدر مع الإسلام كما في قوله تعالى: * (أفمن شرح الله صدره للإسلام) * (الزمر: 22) ومن هنا قال بعض السادات: القلب مقر الإيمان، والصدر محل الإسلام، والفؤاد مشرق المشاهدة، واللب مقام التوحيد الحقيقي، ولعل الآية على هذا تؤول إلى قولنا ليبتلي إسلامكم وليمحص إيمانكم، وربما يقال
(٩٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 ... » »»