تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٤ - الصفحة ٧٠
وأصل التمحيص كما قال الخليل: تخليص الشيء من كل عيب يقال: محصت الذهب إذا أزلت خبثه. والجملة معطوفة على يتخذ (آل عمران: 140) وتكرير اللام للاعتناء بهذه العلة ولذلك أظهر الاسم الجليل في موضع الإضمار أو لتذكير التعليل لوقوع الفصل بينهما بالاعتراض. وهذه الأمور الثلاثة - كما قال مولانا شيخ الإسلام - علل للمداولة المعهودة باعتبار كونها على المؤمنين قدمت في الذكر لأنها المحتاجة إلى البيان. ولعل تأخير العلة الأخيرة عن الاعتراض لئلا يتوهم اندراج المذنبين في الظالمين أو لتقترن بقوله عز وجل: * (ويمحق الك‍افرين) * لما بينهما من المناسبة حيث إن في كل من التمحيص و - المحق - إزالة إلا أن في الأول: إزالة الآثار وإزاحة الأوضار. وفي الثاني: إزالة العين وإهلاك النفس، وأصل - المحق - تنقيص الشيء قليلا قليلا ومنه المحاق والمعنى ويهلك الكافرين، ولا يبقى منهم أحدا ينفخ النار. وهذا علة للمداولة باعتبار كونها عليهم. والمراد منهم هنا طائفة مخصوصة وهم الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأصروا على الكفر فإن الله تعالى محقهم جميعا، وقيل: يجوز أن يكون هذا علة للمداولة باعتبار كونها على المؤمنين أيضا فإن الكفار إذا غلبوا أحيانا اغتروا وأوقعهم الشيطان في أوحال الأمل ووسوس لهم فبقوا مصرين على الكفر فأهلكهم الله تعالى بذنوبهم وخلدهم في النار.
* (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) *.
* (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة) * خطاب للمنهزمين يوم أحد وهو كلام مستأنف (سيق) لبيان ما هي الغاية القصوى من المداولة والنتيجة لما ذكر من العلل الثلاث الأول، و * (أم) * منقطعة مقدرة ببل وهمزة الاستفهام الإنكاري، وكونها متصلة وعديلها مقدر تكلف، والإضراب عن التسلية ببيان العلل فيما لقوا من الشدة إلى تحقيق أنها من مبادىء الفوز بالمطلب الأسنى والمقام الأعلى، والمعنى بل لا ينبغي منكم أن تظنوا أنكم تدخلون الجنة وتفوزون بنعيمها وما أعد الله تعالى لعباده فيها.
* (ولما يعلم الله الذين ج‍اهدوا منكم) * حال من ضمير * (تدخلوا) * مؤكدة للإنكار فإن رجاء الأجر من غير عمل ممن يعلم أنه منوط به مستبعد عن العقول، ولهذا قيل: ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها * إن السفينة لا تجري على اليبس وورد عن شهر بن حوشب طلب الجنة من غير عمل ذنب من الذنوب، وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور، وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وجهالة، ونفي العلم باعتبار تعلقه التنجيزي كما مر في الإثبات على رأي. ويجوز أن يكون الكلام كناية عن نفي تحقق ذلك لأن نفي العلم من لوازم نفي التحقق إذ التحقق ملزوم علم الله تعالى، ونفي اللازم لازم نفي الملزوم وكثيرا ما يقال: ما علم الله تعالى في فلان خيرا ويراد ما فيه خير حتى يعلمه، وهل يجري ذلك في نفي علمنا أم لا؟ فيه تردد والذي قطع به صاحب " الانتصاف " الثاني، وإيثار الكناية على التصريح للمبالغة في تحقيق المعنى المراد - وهو عدم تحقق الجهاد الذي هو سبب للفوز الأعظم منهم - لما أن الكلام عليها كدعوى الشيء ببينة، وفي ذلك رمز أيضا إلى ترك الرياء، وأن المقصود علم الله تعالى لا الناس، وإنما وجه النفي إلى الموصوفين مع أن المنفي هو الوصف الذي هو الجهاد للمبالغة في بيان انتقاء ذلك، وعدم تحققه أصلا وكيف تحقق صفة بدون موصوف، وفي اختيار * (لما) * على لم إشارة إلى أن الجهاد متوقع منهم فيما يستقبل بناءا على ما يفهم من كلام سيبويه أن (لما) تدل على توقع الفعل المنفي بها، وقد ذكر الزجاج أنه إذا قيل: قد فعل فلان فجوابه - لما يفعل، وإذا قيل: فعل؟ فجوابه لم يفعل، فإذا قيل: لقد فعل، فجوابه ما فعل كأنه قال: والله لقد فعل فقال المجيب: والله
(٧٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 ... » »»