تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٤ - الصفحة ٧١
ما فعل، وإذا قيل: هو يفعل يريد ما يستقبل، فجوابه لا يفعل، وإذا قيل: سيفعل، فجوابه لن يفعل، فقول أبي حيان: " إن القول بأن لما تدل على توقع الفعل المنفي بها فيما يستقبل لا أعلم أحدا من النحويين ذكره " غير متعد به، نعم هذا التوقع هنا غير معتبر في تأكيد الإنكار، وقرىء، * (ويعلم) * بفتح الميم على أن أصله يعلمن بنون خفيفة فحذفت في الدرج، وقد أجازوا حذفها إما بشرط ملاقاة ساكن بعدها أومطلقا، ومن ذلك قوله:
إذا قلت قدني قال بالله حلفة * لتغني عني ذا أنائك أجمعا على رواية فتح اللام؛ وقيل: إن فتح الميم لاتباع اللام ليبقى تفخيم اسم الله عز اسمه، و * (منكم) * حال من * (الذين) * و (من) فيه للتبعيض، فيؤذن بأن الجهاد فرض كفاية.
* (ويعلم الصابرين) * نصب بإضمار أن، وقيل: بواو الصرف، والكلام على طرز - لا تأكل السمك وتشرب اللبن - أي أم حسبتم أن تدخلوا الجنة والحال أنه لم يتحقق منكم الجهاد والصبر أي الجمع بينهما، وإيثار الصابرين على الذين صبروا للإيذان بأن المعتبر هو الاستمرار على الصبر وللمحافظة على رؤوس الآي، وقيل: الفعل مجزوم بالعطف على المجزوم قبله وحرك لالتقاء الساكنين بالفتحة للخفة والاتباع، ويؤيد ذلك قراءة الحسن * (ويعلم الصابرين) * بكسر الميم، وقرىء * (ويعلم) * بالرفع على أن الواو للاستئناف أو للحال بتقدير وهو يعلم، وصاحب الحال الموصول كأنه قيل: ولما تجاهدوا وأنتم صابرون.
* (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون) *.
* (ولقد كنتم تمنون الموت) * خطاب لطائفة من المؤمنين لم يشهدوا غزوة بدر لعدم ظنهم الحرب حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها فلما وقع ما وقع ندموا فكانوا يقولون: ليتنا نقتل كما قتل أصحاب بدر ونستشهد كما استشهدوا فلما أشهدهم الله تعالى أحدا لم يلبث إلا من شاء الله تعالى منهم. فالمراد بالموت هنا الموت في سبيل الله تعالى وهي الشهادة ولا بأس بتمنيها ولا يرد أن في تمني ذلك تمني غلبة الكفار لأن قصد المتمني الوصول إلى نيل كرامة الشهداء لا غير، ولا يذهب إلى ذلك وهمه كما أن من يشرب دواء النصراني مثلا يقصد الشفاء لا نفعه ولا ترويج صناعته، وقد وقع هذا التمني من عبد الله بن رواحة من كبار الصحابة ولم ينكر عليه، ويجوز أن يراد بالموت الحرب فإنها من أسبابه، وبه يشعر كلام الربيع وقتادة فحينئذ المتمنى الحرب لا الموت.
* (من قبل أن تلقوه) * متعلق بتمنون) * مبين لسبب إقدامهم على التمني أي من قبل أن تشاهدوا وتعرفوا هوله، وقرىء بضم اللام على حذف المضاف إليه ونية معناه وأن تلقوه حينئذ بدل من الموت بدل اشتمال أي كنتم تمنون الموت أن تلقوه من قبل ذلك، وقرىء (تلاقوه) من المفاعلة التي تكون بين اثنين وما لقيك فقد لقيته، ويجوز أن يكون من باب سافرت والضمير عائد إلى (الموت)، وقيل: إلى العدو المفهوم من الكلام وليس بشيء.
* (فقد رأيتموه) * أي ما تمنيتموه من الموت بمشاهدة أسبابه أو أسبابه، والفاء فصيحة كأنه قيل: إن كنتم صادقين في تمنيكم ذلك فقد رأيتموه، وإيثار الرؤية على الملاقاة إما للإشارة إلى انهزامهم أو للمبالغة في مشاهدتهم له كتقييد ذلك بقوله سبحانه: * (وأنتم تنظرون) * لأنه في موضع الحال من ضمير المخاطبين أي رأيتموه معاينين له، وهذا على حد قولك: رأيته وليس في عيني علة أي رأيته رؤية حقيقية لا خفاء فيها ولا شبهة، وقيل: تنظرون بمعنى تتأملون وتتفكرون أي وأنتم تتأملون الحال كيف هي، وقيل: معناه وأنتم تنظرون إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى كل حال فالمقصود من هذا الكلام عتاب المنهزمين
(٧١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 ... » »»