على أن يجبرهم على الإسلام ويقسرهم لكنه سبحانه أراد إظهار هذا الدين على مهل وتدريج وبواسطة الدعوة وبطريق الابتلاء والتكليف فلا جرم أجرى الأمور على ما أجرى فله الحمد على ما أولى وله الحكم في الآخرة والأولى، وبهذا يندفع كثير من تلك الشبه، وإهلاك قوم لوط عليه الصلاة والسلام كان بعد انقضاء تكليفهم وهو حين نزول البأس فلا جرم أظهر الله تعالى القدرة وجعل عاليها سافلها، وفي غزوة أحد كان الزمان زمان تكليف فلا جرم أظهر الحكمة ليتميز الموافق عن المنافق والثابت عن المضطرب ولو أجري الأمر فيها كما أجري في بدر أشبه أن يفضي الأمر إلى حد الإلجاء ونافى التكليف ونوط الثواب والعقاب، ثم لا يخفى أن الملائكة إما أجسام لطيفة نورانية وإما أرواح شريفة قدسية. وعلى التقديرين لهم الظهور في صور بني آدم مثلا من غير انقلاب العين وتبدل الماهية كما قال ذلك العارفون من المحققين في ظهور جبريل عليه السلام في صورة دحية الكلبي ومثل هذا من وجه ولله تعالى المثل الأعلى ما صح من تجلي الله تعالى لأهل الموقف بصورة فيقول لهم: أنا ربكم فينكرونه فإن الحكم في تلك القضية صادق مع أن الله تعالى وتقدس وراء ذلك وهو سبحانه في ذلك التجلي باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق، ومن سلم هذا - ولا يسلمه إلا ذو قلب سليم - لم يشكل عليه الإمداد بالملائكة وظهورهم على خيول غيبية ثابتين عليهما حسبما تقتضيه الحكمة الإلهية والمصلحة الربانية ولا يلزم من ذلك رؤية كل ذي بصر لهم لجواز إحداث أمر مانع عنها إما في الرائي أو في المرئي ولا مانع من أنهم يرون أحيانا ويخفون أحيانا ويرى البعض ويخفى البعض، وزمام ذلك بيد الحكيم العليم فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن والشيء متى أمكن وورد به النص عن الصادق وجب قبوله ومجرد الاستبعاد لا يجدي نفعا ولو ساغ التأويل لذلك لزم تأويل أكثر هذه الشريعة بل الشرائع بأسرها وربما أفضى ذلك إلى أمر عظيم، فالواجب تسليم كل ممكن جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وتفويض تفصيل ذلك وكيفيته إلى الله تعالى.
* (العزيز) * أي الغالب الذي لا يغالب فيما قضى به، وقيل: القادر على انتقامه من الكفار بأيدي المؤمنين وفي إجراء هذا الوصف هنا عليه تعالى إيذان بعلة اختصاص النصر به سبحانه. * (الحكيم) * أي الذي يضع الأشياء مواضعها ويفعل على ما تقتضيه الحكمة في سائر أفعاله ومن ذلك نصره للمؤمنين بواسطة إنزال الملائكة، وفي الاتيان بهذا الوصف رد على أمثال الأصم في إنكارهم ما نطقت به الظواهر فسبحانه من عليم حكيم وعزيز حليم.
* (ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خآئبين) *.
* (ليقطع طرفا من الذين كفروا) * متعلق بقوله تعالى: * (ولقد نصركم الله ببدر) * (آل عمران: 123) وما بينهما تحقيق لحقيته وبيان لكيفية وقوعه، وإلى ذلك ذهب جمع من المحققين وهو ظاهر على تقدير أن يجعل إذ تقول (آل عمران: 124) ظرفا - لنصركم - لا بدلا من إذ غدوت (آل عمران: 121) لئلا يفصل بأجنبي ولأنه كان يوم أحد. والظاهر أن هذا في شأن بدر والمقصور على التعليل بما ذكر من البشرى والاطمئنان إنما هو الإمداد بالملائكة على الوجه المذكور فلا يقدح (ذلك) في تعليل أصل النصر بالقطع وماعطف عليه، وجوز أن يتعلق بما تعلق به الخبر في قوله سبحانه: * (وما النصر إلا من عند الله) * (آل عمران: 126) على تقدير كونه عبارة عن النصر المعهود والمعلل بالبشارة والاطمئنان إنما هو الإمداد الصوري لا ما في ضمنه من النصر المعنوي الذي هو ملاك الأمر وعموده، وقيل: هو متعلق بنفس الصبر، واعترض عليه بأنه مع ما فيه من الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي هو الخبر مخل بسداد المعنى كيف لا ومعناه قصر النصر المخصوص المعلل بعلة معينة على الحصول من جهته تعالى، وليس المراد