تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٤ - الصفحة ٤٧
الأول لاجتماع شرائطه ولم ينصب الثاني لفقدانها، وقيل: للإشارة أيضا إلى أصالته في العلية وأهميته في نفسه كما في قوله تعالى: * (لتركبوها وزينة) * (النحل: 8) وإما متعلق بمحذوف معطوف على الكلام السابق أي ولتطمئن قلوبكم به، فعل ذلك وهو أولى من تقدير بشركم كما فعل أبو البقاء، والثاني متعين على الاحتمال الثاني في الأول.
* (وما النصر) * أي على الإطلاق فيندرج فيه النصر المعهود دخولا أوليا * (إلا من عند الله) * المودع في الأسباب بمقتضى الحكمة قوة لا تأثر إلا به أو وما النصر المعهود إلا من عنده سبحانه وتعالى لا من الملائكة لأن قصارى أمرهم ما ذكر من البشارة وتقوية القلوب ولم يقاتلوا أو لأن قصارى أمرهم أنهم قاتلوا بتمكين الله تعالى لهم ولم يكن لهم فعل استقلالا ولو شاء الله تعالى ما فعلوا على أن مجرد قتالهم لا يستدعي النصر بل لا بد من انضمام ضعف المقابلين المقاتلين ولو شاء الله تعالى لسلطهم عليهم فحيث أضعف وقوى ومكن وما مكن وبه حصل النصر كان ذلك منه سبحانه وتعالى.
والآية على هذا لا تكون دليلا لمن زعم أن المسببات عند الأسباب لا بها وقد مر تحقيقه فتذكر، وكذا لا دليل فيها على وقوع قتالهم ولا على عدمه لاحتمالها الأمرين، وبكل قال بعض. والمختار ما روي عن مجاهد أن الملائكة لم يقاتلوا في غزواته صلى الله عليه وسلم إلا في غزوة بدر وإنما حضروا في بعضها بمقتضى ما علم الله تعالى من المصلحة مثل حضورهم حلق أهل الذكر، وربما أعانوا بغير القتال كما صنعوا في غزوة أحد على قول، فعن ابن إسحق أن سعد بن مالك كان يرمي في غزوة أحد وفتى شاب كان ينبل له كلما فني النبل أتاه به وقال له: ارم أبا إسحق ارم أبا إسحق، فلما انجلت المعركة سأل عن ذلك الرجل فلم يعرف، وأنكر أبو بكر الأصم الإمداد بالملائكة، وقال: إن الملك الواحد يكفي في إهلاك سائر أهل الأرض كما فعل جبريل عليه السلام بمدائن قوم لوط فإذا حضر هو مأمورا بالقتال فأي حاجة إلى مقاتلة الناس مع الكفار، وأيضا أي فائدة في إرسال سائر الملائكة معه وهو القوي الأمين، وأيضا إن أكابر الكفار الموجودين في غزوة القتال قاتل كل منهم من الصحابة معلوم ولم يعلم أن أحدا من الملائكة قتل أحدا منهم، وأيضا لو قاتلوا فإما أن يكونوا بحيث يراهم الناس أو لا، وعلى الأول: يكون المشاهد من عسكر الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر ألوفا عديدة ولم يقل بذلك أحد، وهو أيضا خلاف قوله تعالى: * (ويقللكم في أعينهم) * (الأنفال: 44) ولو كانوا في غير صورة ابن آدم لزم وقوع الرعب الشديد في قلوب الخلق ولم ينقل ذلك ولو كان لنقل ألبتة، وعلى الثاني: يلزم حز الرؤوس وتمزيق البطون ونحو ذلك من الكفار من غير مشاهدة فاعل لهذه الأفعال ومثل هذا يكون من أعظم المعجزات وقد وقع بين جمعين سالم ومكسر فكان يجب أن يتواتر ويشتهر لدى الموافق والمخالف فحيث إنه لم يشتهر دل على أنه لم يكن، وأيضا أنهم لو كانوا أجساما كثيفة وجب أن يراهم الكل وإن كانوا أجساما لطيفة هوائية تعذر ثبوتهم على الخيل انتهى.
ولا يخفى أن هذه الشبه لا يليق إيرادها بقوانين الشريعة ولا بمن يعترف بأنه تعالى قادر على ما يشاء فعال لما يريد فما كان يليق بالأصم إلا أن يكون أخرس عن ذلك إذ نص القرآن ناطق بالإمداد؛ ووروده في الأخبار قريب من المتواتر فكأن الأصم أصم عن سماعه أو أعمى عن رؤية رباعه، وقد روى عبد بن عمير قال: لما رجعت قريش من أحد جعلوا يتحدثون في أنديتهم بما ظفروا ويقولون لم نر الخيل البلق ولا الرجال البيض الذين كنا نراهم يوم بدر، والتحقيق في هذا المقام كما قال بعض المحققين: إن التكليف ينافي الإلجاء وأنه تعالى شأنه وإن كان قادرا على إهلاك جميع الكفار في لحظة واحدة بملك واحد بل بأدنى من ذلك بل بلا سبب، وكذا هو قادر
(٤٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 ... » »»