في الاختلاف أقوى من إطلاقها على قولنا: المصيب واحد، هذا كله إذا حملنا الاختلاف في الخبر على الاختلاف في الفروع، وأما إذا قلنا المراد الاختلاف في الصنائع والحرف فلا شك أن ذلك من نعم الله تعالى التي يطلب من العبد شكرها كما قال الحليمي في " شعب الإيمان "، لكن كان المناسب على هذا أن يقال اختلاف الناس رحمة إذ لا خصوصية للأمة بذلك فإن كل الأمم مختلفون في الصنائع والحرف لا هذه الأمة فقط فلا بد لتخصيص الأمة من وجه، ووجهه إمام الحرمين بأن المراتب والمناصب التي أعطيتها أمته صلى الله عليه وسلم لم تعطها أمة من الأمم فهي من رحمة الله تعالى لهم وفضله عليهم لكنه لا يسبق من لفظ الاختلاف إلى ذلك ولا إلى الصنائع والحرف، فالحرفة الإبقاء على الظاهر المتبادر وتأويل الخبر بما تقدم.
هذه خلاصة كلامه ولا يخفى أنه مما لا بأس به، نعم كون الحديث ليس معروفا عند المحدثين أصلا لا يخلو عن شيء، فقد عزاه الزركشي في " الأحاديث المشتهرة " إلى كتاب " الحجة " لنصر المقدسي ولم يذكر سنده ولا صحته لكن ورد ما يقويه في الجملة مما نقل من كلام السلف، والحديث الذي أوردناه قبل وإن رواه الطبري والبيهقي في " المدخل " بسند ضعيف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على أنه يكفي في هذا الباب الحديث الذي أخرجه الشيخان وغيرهما، فالحق الذي لا محيد عنه أن المراد اختلاف الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن شاركهم في الاجتهاد كالمجتهدين المعتد بهم من علماء الدين الذين ليسوا بمبتدعين وكون ذلك رحمة لضعفاء الأمة، ومن ليس في درجتهم مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان ولا يتنازع فيه اثنان فليفهم.
* (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) *.
* (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) * نصب بما في * (لهم) * من معنى الاستقرار أو منصوب بأذكر مقدرا، وقيل: العامل فيه عذاب وضعف بأن المصدر الموصوف لا يعمل، وقيل: عظيم، وأورد عليه أنه يلزم تقييد عظمته بهذا ولا معنى له، ورد بأنه إذا عظم فيه وفيه كل عظيم ففي غيره أولى إلا أن يقال: إن التقييد ليس بمراد، والمراد بالبياض معناه الحقيقي أو لازمه من السرور والفرح وكذا يقال في السواد والجمهور على الأول قالوا: يوسم أهل الحق ببياض الوجه وإشراق البشرة تشريفا لهم وإظهارا لآثار أعمالهم في ذلك الجمع، ويوسم أهل الباطل بضد ذلك، والظاهر أن الإبيضاض والإسوداد يكون لجميع الجسد إلا أنهما أسندا للوجوه لأن الوجه أول ما يلقاك من الشخص وتراه وهو أشرف أعضائه. واختلف في وقت ذلك فقيل: وقت البعث من القبور، وقيل: وقت قراءة الصحف، وقيل: وقت رجحان الحسنات والسيئات في الميزان، وقيل: عند قوله تعالى شأنه: * (وامتازوا اليوم أيها المجرمون) * (يس: 59)، وقيل: وقت أن يؤمر كل فريق بأن يتبع معبوده، ولا يبعد أن يقال: إن في كل موقف من هذه المواقف يحصل شيء من ذلك إلى أن يصل إلى حد الله تعالى أعلم به إذ البياض والسواد من المشكك دون المتواطىء كما لا يخفى، وقرأ - تبيض وتسود - بكسر حرف المضارعة وهي لغة - وتبياض وتسواد -.
* (فأما الذين اسودت وجوههم) * تفصيل لأحوال الفريقين وابتدأ بحال الذين اسودت وجوههم لمجاورته * (وتسود وجوه) * وليكون الابتداء والاختتام بما يسر الطبع ويشرح الصدر * (أكفرتم بعد إيمانكم) * على إرادة القول المقرون بالفاء أي فيقال لهم ذلك، وحذف القول واستتباع الفاء له في الحذف أكثر من أن يحصى، وإنما الممنوع حذفها وحدها في جواب أما، والاستفهام للتوبيخ والتعجيب من حالهم، والكلام حكاية لما يقال لهم فلا التفات فيه خلافا للسمين، والظاهر من السياق والسباق أن هؤلاء أهل الكتاب وكفرهم بعد إيمانهم