تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٤ - الصفحة ٢٢٨
أنفعية الأول في ضمن التعريض بأن لهم اعتقادا بأنفعية الثاني مبنيا على عدم الدراية، وقد أشير إلى ذلك حيث عبر عن الأنفعية بأقربية النفع تذكيرا لمناط زعمهم وتعيينا لمنشأ خطئهم ومبالغة في الترغيب المذكور بتصوير الصواب الآجل بصورة العاجل لما أن الطباع مجبولة على حب الخير الحاضر كأنه قيل: لا تدرون أيهم أنفع لكم فتحكمون نظرا إلى ظاهر الحال وقرب المنال بأنفعية الثاني مع أن الأمر بخلافه فإن ما يترتب على الأول الثواب الدائم في الآخرة، وما يترتب على الثاني العرض الفاني في الحياة الدنيا، والأول لبقائه هو الأقرب الأدنى، والثاني لفنائه هو الأبعد الأقصى، واختار كثير من المحققين كون الجملة اعتراضا مؤكدا لأمر القسمة، وجعل الخطاب للمورثين، وتوجيه ذلك أنه تعالى بين أنصباء الأولاد والأبوين فيما قبل؛ وكانت الأنصباء مختلفة، والعقول لا تهتدي إلى كمية ذلك. فربما يخطر للإنسان أن القسمة لو وقعت على غير هذا الوجه كانت أنفع وأصلح كما تعارفه أهل الجاهلية حيث كانوا يورثون الرجال الأقوياء ولا يورثون الصبيان والنسوان الضعفاء فأنكر الله تعالى عليهم ما عسى أن يخطر ببالهم من هذا القبيل، وأشار إلى قصور أذهانهم فكأنه قال: إن عقولكم لا تحيط بمصالحكم فلا تعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم في عاجلكم وآجلكم فاتركوا تقدير المواريث بالمقادير التي تستحسنونها بعقولكم ولا تعمدوا إلى تفضيل بعض وحرمانه، وكونوا مطيعين لأمر الله تعالى في هذه التقديرات التي قدرها سبحانه فإنه العالم بمغيبات الأمور وعواقبها، ووجه الحكمة فيما قدره ودبره وهو العليم الحكيم، والنفع على هذا أعم من الدنيوي والأخروي وانتفاع بعضهم ببعض في الدنيا يكون بالإنفاق عليه والتربية له والذب عنه مثلا، وانتفاعهم في الآخرة يكون بالشفاعة، فقد أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال: إنهم لم يبلغوا درجتك فيقول: يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به، وإلى هذا ذهب الحسن رحمه الله تعالى، وخص مجاهد النفع بالدنيوي وخصه بعضهم بالأخروي.
وذكر أن المعنى لا تدرون أي الآباء من الوالدين والوالدات وأي الأبناء من البنين والبنات أقرب لكم نفعا لترفعوا إليهم في الدرجة في الآخرة، وإذا لم تدروا فادفعوا ما فرض الله تعالى وقسم ولا تقولوا: لماذا أخر الأب عن الإبن ولأي شيء حاز الجميع دون الأم والبنت، واعترض بأن ذلك غير معلل بالنفع حتى يتم ما ذكر وأنه يدل على أن من قدم في الورثة، أو ضوعف نصيبه أنفع ولا كذلك، والجواب بأنه أريد أن المنافع لما كانت محجوبة عن درايتكم فاعتقدوا فيه نفعا لا تصل إليه عقولكم بعيد لعدم فهمه من السياق، ويرد نحو هذا على ما اختار الكثير، وربما يقال: المعنى أنكم لا تدرون أي الأصول والفروع أقرب لكم نفعا فضلا عن النفع فكيف تحكمون بالقسمة حسب المنفعة وهي محجوبة عن درايتكم بالمرة، والكلام مسوق لرد ما كان في الجاهلية فإن أهل الجاهلية كانوا - كما قال السدي - لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من الغلمان ولا يرث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال، وعن ابن عباس أنهم كانوا يعطون الميراث الأكبر فالأكبر، وهذا مشعر بأن مدار الإرث عندهم الأنفعية مع العلاقة النسبية فرد الله تعالى عليهم بأن الأنفعية لا تدرونها فكيف تعتبرونها والغرض من ذلك الإلزام لا بيان أن الأنفعية معتبرة في نفس الأمر إلا أنهم لا يدرونها، ولعله على هذا لا يرد ما تقدم من الاعتراض فتدبر، وقيل: إن المراد من الآية إنكم لا تدرون أي الوارثين والمورثين أسرع موتا فيرثه صاحبه فلا تتمنوا موت الموروث ولا تستعجلوه، ونسب إلى أبي مسلم، ولا يخفى مزيد بعده.
* (فريضة من الله) *
(٢٢٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 223 224 225 226 227 228 229 230 231 232 233 ... » »»