تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٤ - الصفحة ٢٣٣
بذلك، والإضمار في مقام الإظهار لإدخال الروعة وتربية المهابة، ثم اعلم أن الله سبحانه أورد أقسام الورثة في هذه الآيات على أحسن الترتيبات، وذلك أن الوارث إما أن يتصل بالميت بنفسه من غير واسطة، أو يتصل به بواسطة فإن اتصل بغير واسطة فسبب الاتصال إما أن يكون النسب أو الزوجية، فحصل هنا ثلاثة أقسام: أشرفها وأعلاها الاتصال الحاصل ابتداءا من جهة النسب، وذلك هو قرابة الولادة، ويدخل فيها الأولاد والوالدان، وثانيها الاتصال الحاصل ابتداءا من جهة الزوجية وهذا القسم متأخر في الشرف عن القسم الأول لأن الأول ذاتي والثاني عرضي؛ والذاتي أشرف من العرضى، وثالثها الاتصال الحاصل بواسطة الغير وهو المسمى بالكلالة، وهذا القسم متأخر عن القسمين الأولين لوجوه: أحدها: أن الأولاد والوالدين والأزواج والزوجات لا يعرض لهم السقوط بالكلية، وأما الكلالة فقد يعرض لها السقوط بالكلية، وثانيها: أن القسمين الأولين ينتسب كل واحد منهما إلى الميت بغير واسطة، والكلالة ينتسب إلى الميت بواسطة، والثابت ابتداءا أشرف من الثابت بواسطة، وثالثها: أن مخالطة الإنسان بالوالدين والأولاد والأزواج والزوجات أكثر وأتم من مخالطته بالكلالة وكثرة المخالطة مظنة الألفة والشفقة وذلك يوجب شدة الاهتمام بأحوالهم، فلهذه الأسباب وأشباهها أخر الله سبحانه ذكر ميراث الكلالة عن ذكر القسمين الأولين فما أحسن هذا الترتيب وما أشد انطباقه على قوانين المعقولات - كما قاله الإمام.
* (تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جن‍ات تجرى من تحتها الانهر خ‍الدين فيها وذالك الفوز العظيم) *.
* (تلك) * أي الأحكام المذكورة في شؤون اليتامى والمواريث وغيرها، واقتصر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على المواريث * (حدود الله) * أي شرائعه أو طاعته أو تفصيلاته أو شروطه، وأطلقت عليها الحدود لشبهها بها من حيث إن المكلف لا يجوز له أن يتجاوزها إلى غيرها. * (ومن يطع الله ورسوله) * فيما أمر به من الأحكام أو فيما فرض من الفرائض، والإظهار في مقام الإضمار لما مرت الإشارة إليه * (يدخله جن‍ات) * نصب على الظرفية عند الجمهور، وعلى المفعولية عند الأخفش. * (تجري من تحتها) * أي من تحت أشجارها وأبنيتها، وقد مر الكلام في ذلك * (الأنه‍ار) * أي ماؤها * (خ‍الدين فيها) * حال مقدرة من مفعول * (يدخله) * لأن الخلود بعد الدخول فهو نظير قولك: مررت برجل معه صقر يصيد به غدا، وصيغة الجمع لمراعاة معنى * (من) * كما أن إفراد الضمير لمراعاة لفظها * (وذالك) * أي دخول الجنات على الوجه المذكور * (الفوز) * أي الفلاح والظفر بالخير * (العظيم) * في نفسه أو بالإضافة إلى حيازة التركة على ما قيل؛ والجملة اعترض.
* (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خ‍الدا فيها وله عذاب مهين) *.
* (ومن يعص الله ورسوله) * فيما أمر به من الأحكام أو فيما فرض من الفرائض، وقال ابن جريج: من لا يؤمن بما فصل سبحانه من المواريث، وحكي مثله عن ابن جبير. * (ويتعد حدوده) * التي جاء بها رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن جملتها ما قص لنا قبل، أو يتعد حدوده في القسمة المذكورة استحلالا كما حكي عن الكلبي * (يدخله) * قرأ نافع وابن عامر بالنون في الموضعين * (نارا) * أي عظيمة هائلة * (خالدا فيها) * حال كما سبق، وأفرد هنا وجمع هناك لأن أهل الطاعة أهل الشفاعة وإذا شفع أحدهم في غيره دخلها معه، وأهل المعاصي لا يشفعون فلا يدخل بهم غيرهم فيبقون فرادى، أو للإيذان بأن الخلود في دار الثواب بصفة الاجتماع الذي هو أجلب للأنس، والخلود في دار العقاب بصفة (1) الانفراد الذي هو أشد في استجلاب الوحشة، وجوز الزجاج والتبريزي كون خالدين (النساء: 13) هناك وخالدا هنا صفتين لجنات
(٢٣٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 228 229 230 231 232 233 234 235 236 237 238 ... » »»