إلا أن يقال: إن الله تعالى أعمى بصائرهم في هذه الدعوى ليكونوا ضحكة لأطفال المؤمنين، أو أنهم قالوا ذلك على سبيل التعنت والعناد ليغيظ كل منهم صاحبه؛ أو ليوهموا بعض المؤمنين ظنا منهم أنهم لكونهم أميين غير مطلعين على تواريخ الأنبياء السالفين يزلزلهم مثل ذلك ففضحهم الله تعالى، أو أن القوم في حد ذاتهم جهلة لا يعلمون وإن كانوا أهل كتاب - وما ذكره ابن الحرث - لا يدل على علمهم كما لا يخفى، وقيل: إن مراد اليهود بقولهم: إن إبراهيم عليه السلام كان يهوديا أنه كان مؤمنا بموسى عليه السلام قبل بعثته على حد ما يقوله المسلمون في سائر المرسلين عليهم الصلاة والسلام من أنهم كانوا مؤمنين بنبينا صلى الله عليه وسلم قبل بعثته كما يدل عليه تبشيرهم به، وأن مراد النصارى بقولهم: إن إبراهيم كان نصرانيا نحو ذلك فرد الله تعالى عليهم بقوله سبحانه: * (وما أنزل التوراة والإنجيل إلا من بعده) * أي ومن شأن المتأخر أن يشتمل على أخبار المتقدم لا سيما مثل هذا الأمر المهم والمفخر العظيم والمنة الكبرى أفلا تعقلون ما فيهما لتعلموا خلوهما عن الأخبار بيهوديته ونصرانيته اللتين زعمتموهما، ثم نبه سبحانه على حماقتهم بقوله جل وعلا:
* (هاأنتم هاؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحآجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) *.
* (ها أنتم هاؤلاء) * أي: أنتم هؤلاء الحمقى * (حاججتم فيما لكم به علم) * كأمر موسى، وعيسى عليهما السلام * (فلم تحآجون فيما ليس لكم به علم) * وهو أمر إبراهيم عليه السلام حيث لا ذكر لدينه في كتابكم، أو لا تعرض لكونه آمن بموسى وعيسى قبل بعثتيهما أصلا، وليس المراد وصفهم بالعلم حقيقة وإنما المراد هب أنكم تحاجون فيما تدعون علمه على ما يلوح لكم من خلال عبارات كتابكم وإشارته في زعمكم فكيف تحاجون فيما لا علم لكم به ولا ذكر، ولا رمز له في كتابكم ألبتة؟! و (ها) حرف تنبيه، واطرد دخولها على المبتدأ إذا كان خبره اسم إشارة نحو - ها أناذا - وكررت هنا للتأكيد، وذهب الأخفش أن الأصل أأنتم على الاستفهام فقلبت الهمزة هاءا، ومعنى الاستفهام عنده التعجب من جهالتهم، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يحسن ذلك لأنه لم يسمع إبدال همزة الاستفهام هاءا في كلامهم إلا في بيت نادر، ثم الفصل بين الهاء المبدلة وهمزة (أنتم) لا يناسب لأنه إنما يفصل لاستثقال اجتماع الهمزتين، وهنا قد زال الاستثقال بإبدال الأولى هاءا، والإشارة للتحقير والتنقيص، ومنها فهم الوصف الذي يظهر به فائدة الحمل، وجملة * (حاججتم) * مستأنفة مبينة للأولى، وقيل: إنها حالية بدليل أنه يقع الحال موقعها كثيرا نحو - ها أناذا قائما - وهذه الحال لازمة؛ وقيل: إن الجملة خبر عن (أنتم) و * (هؤلاء) * منادى حذف منه حرف النداء، وقيل: * (هؤلاء) * بمعنى الذي خبر المتبدأ، وجملة * (حاججتم) * صلة؛ وإليه ذهب الكوفيون، وقراؤهم يقرءون * (ها أنتم) * بالمد والهمز، وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو بغير همز ولا مد إلا بقدر خروج الألف الساكن ، وقرأ ابن كثير ويعقوب بالهمز والقصر بغير مد، وقرأ ابن عامر بالمد دون الهمز * (والله يعلم) * حال إبراهيم وما كان عليه * (وأنتم لا تعلمون) * ذلك، ولك أن تعتبر المفعول عاما ويدخل المذكور فيه دخولا أوليا، والجملة تأكيد لنفي العلم عنهم في شأن إبراهيم عليه السلام ثم صرح بما نطق به البرهان المقرر [بم فقال سبحانه:
* (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين) *.
* (ما كان إبراهيم يهوديا) * كما قالت اليهود * (ولا نصرانيا) * كما قالت النصارى * (ولاكن كان حنيفا) * أي مائلا عن العقائد الزائغة * (مسلما) * أي منقادا لطاعة الحق، أو موحدا لأن الإسلام يرد بمعنى التوحيد أيضا؛ قيل: وينصره قوله تعالى: * (وما كان من المشركين) * أي عبدة الأصنام كالعرب الذي كانوا يدعون